مقالاتمناسبات

نظرات في آية الحجرات د.عدنان زهار

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين،

وبعد،

فلقد حدثنا القرآن الكريم عن خلافة الإنسان في الأرض، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة/30]، وتباينت مفاهيم أهل النظر في نسبة تلكم الخلافة وعَمَّن تكون، بين مَن جعلها خلافة عن الله عز وجل، الذي شاء أن تظهر مقتضيات أسمائه وصفاته في مملكته وملكوته، فأنشأ لها خلقا مكرماً، له وجهتان، إحداهما سفلية إلى الخلق فسواها من طين، وثانيتهما علوية إلى الخالق فجعلها من روحه.
وطائفة استبعدت هذه الصرفة وأنكرت هذا التصرف، وصرحت أنما هي خلافة من الله عن خلق سبقوا لم يوفقوا.

لكن، مهما تكون وعمن كانت، فليس هناك شك في فرضية سلوك أحسن طريق لتحقيقها، ليس هناك أدنى ارتياب أن هذا الجنس المكرم المشرف، إنما أُعليت مربته ورفعت منزلته على باقي الخلائق اعتبارا من الخالق لمدى اجتهاده في طلب الإحسان؛ الإحسان في الخلافة.

وإنما بُعثت الأنبياء وأرسلت الرسل وأنزلت الصحف والكتب وشُرِّعت الشرائع وورَّث الله مَن شاء مِن الناس ما أودعه قلوبَ أصفيائه من الأنبياء والمرسلين، لأجل التذكير بأسلك طريق وأقوم سبيل لبلوغ مرتبة الإحسان في تحقيق الخلافة عن الله –أو من الله-؛ وما رسالة القرآن العظيم إلا خاتمة مقاصد سابق الرسالات…فسوره وآياته وكلماته وتقديمه وتأخيره وترتيبه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده وعامه وخاصه وناسخه ومنسوخه وقصصه وحكاياته وكل علومه الظاهرة والباطنة وأسراره الخفية وما كشف منها وغير ذلك لا ثاني للمقصد منها:

كيف تكون حقا خليفةً في الأرض؟

تقرر قرآنا وسنةً أن الكرامة الإنسانية الناطقُ بها قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء/70] مستمدةٌ من النفخة الروحية الأزلية الإكرامية التفضلية المصرِّحُ بها قوله عز وجل (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) [الحجر/29].

فحيثما احترم الإنسان أصل هذه النفخة وسيَّر كسبه على وفق تلك الروح، فالكرامة صفة له لازمة متجددة منفتحة إلى أن يلقى الله، وكلما أهان ما كرَّمه الله به كلَّما شرفت الدواب عليه ويلقى الله بلسان (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [النبأ/40].

إلا أن أهل الجاهلية الأولى وخلْفَهم من أبناء الجاهية الأخرى طلبوا الكرامة في ضدها، وقصدوها بعكس طريقها، فتعاظموا بالأنساب والألوان والرياسات والجاه والسلطان، فجاءت الآية الكريمة العظيمة تذكرةً بالغة وموعظة حكيمة صادعة، تُرجع الذهن المتقد والعقل المنوَّر المنفتح إلى حقيقة معنى الكرامة.

قال الحق سبحانه (إن أكرمكم عند الله اتقاكم). هذه الجملة الخبرية مؤكَّدةٌ بالاسمية فيها الدالة على الثبات و”إن” المحققة التوكيد، بمثابة مقصد من مقدمةِ (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)، أو هي بمنزلة النتيجة من القياس، ولذلك فصلت لأجل البيان. وبيان ذلك، أن تعلم أن آيتنا هذه جاءت في سياق وسباق ولحاق دالين على اعتناء القرآن بتربية الفرد والمجتمع وتوجيههما لمعرفة طريق النجاح وسبيل النجاة.ولا حصول لكل ذلك إلا بتهذيب النفس وتطهيرها من الرعونات المهلكة لها الحاجبة إياها عن التحقق بالخلافية.

فما قبلها حديثٌ من القرآن على الإصلاح بين الناس وتأكيده على الأخوة الصحيحة بالإيمان الثابت المستقر في القلوب، ونهيهه عن أسباب وقوع النزاع والشقاق كظنون السوء والاستعلاء على الغير والتجسس والسخرية…إلى غير ذلك مما يحفظ جمع الأمة المستخلَفة في الأرض وبما يسد ذريعة التشتت فالهوان والانكسار فتضيع أمانة الخلافة.

فإذا بالقرآن العظيم كعادته في الإعجاز البلاغي ورقة العبارة وبراعة تلوُّن الخطاب، يلتفت بالحديث والإخبار إلى الناس كلهم بعدما كان حديثا موجها خاصة إلى خاصتهم -وهم المؤمنون-.
يشرك القرآن في هذا الخطاب الكافر والمنافق والمنكر مع المسلم المؤمن الموحد، لِمَهْ؟
لأن علة من أعرض عن الحق هي اعتبار الكرامة في غير التقوى واعتقاد السعادة في غير العبادة وتوهم السيادة من غير العبودية المطلقة لله وحده…

انظر إلى دليل ذلك في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت/26]، فلم يكن يمنعهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع للحق إلا طلب الغلبة، وسبحان الله.
فآيتنا تقرر حقيقة غابت على الأذهان وأنسيت في العقول ومسحت من القلوب، أنه لا ينفع إلا تقوى الله ومعرفته والتذلل إليه وطلب العزة به وبرسوله وبالمؤمنين.

فاقتضى هذا المقصد المُخبَر عنه التقديمَ بما هو متفق عليه بين (الناس)، من كون البشر متساوين في كلّ شيء، بدليل أصل الخلقة، فقد روي أن رجلاً قال لنبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: أي الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب وقال : أي هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب ، فأكرمهم أتقاهم.
فكوننا جميعا من ذكر وهو آدم وأنثى وهي حواء على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، مفيدٌ لكل عاقل في طلب الكرامة في غير الجنس ما دام الأصل واحدا والصورة متشابهة والخلقة متماثلة والوظيفة الكونية واحدة…ثم إن التاريخ البشري أصدق شاهد على أن من طلب الكرامة بما لا تُطلب به عادةً من لون أو نسب أو حسب أو جاه…فقد أشهد الخلق والخالق على حمقه واختلال موازين فكره وانحراف طبعه…
من ذلك أن عرب الجاهلية كانوا يتفاخرون بالقبائل والعشائر والأنساب، ويحقرون قبائل أخرى كباهلة وضُبيعة وبني عكل، وقد سُئل أعرابي : أتحب أن تدخل الجنة وأنت باهليٌّ؟ فأطرق حينا ثم قال: على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلى .

أما قوله تعال (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، فجملة اعتراضية بين المقدمة والمقصد والنتيجة والقياس، وهو إدماج أدب جديد اقتضاه سياق الحديث عن أصل الخلقة المرتبط بالحديث عن حقيقة الكرامة بين الخلق.

والشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة…وإنما اقتصر القرآن على القبائل والشعوب دون من هو دونها كالعمارة والبطن والفخذ والفصيلة لأن كلَّ ذلك مفهوم في لفظ القبيلة من باب لحن الخطاب، ولأن التفاخر عندهم بالشعوب والقبائل كان أكثر وأغلب في خطاباتهم وأشعارهم من التفاخر بما هو دون ذلك.

ثم عرف القرآن الناس جميعا بأن حكمة الله القديمة جرت لتفريق جماعات الناس على هذا النمط المذكور لا ليتفاخروا على بعضهم بما هو أهون من أن يلتفت إليه وأحقر من أن يتعاظم بالانتساب إليه، وهو أن يكون ذلك من أجل التعارف المحمود المؤدي إلى ربط روح التواصل بين الناس المحقق لوجود الثقة فيما بينهم فتسير الدعوة إلى الله ودينه في قناة صافية قابلة الإيداع والاستيداع…

قال الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله في “التحرير والتنوير”:والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجاً إلى الأعلى ، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائِر، والعمائِر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها.

فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاماً محكماً لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر . وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم .اهـ المقصود منه.

حديث الناس عن التواصل كثير، دعوة الأفراد والمجتمعات والمؤسسات إلى الحوار بين أهل الاعتقادات مستمر، مطالبة عقلاء بني آدم للتعارف والتعاون هنا وهناك غير متناهية؛ على اختلاف نياتهم وتباين مقاصدهم وتميُّز أهدافهم، ما بين مخلص في الدعوة والطلب وبين عازم على مسح الغير في ذاتيته…
لكن لا أحد استطاع ولا أحد يستطيع أن يجعل هذه الغاية المنشودة محكومة مشروطة بتذكر أصل والتنبه إلى حقيقة. الأصل وحدة مخرج كلِّ إنسان، والحقيقة ألا أحد أكرم من أحدٍ إلا بالانحياش الكلي تحت لواء العبودية لله الخالق عز وجل…

ولذلك قيَّد القرآن تلك الكرامة بقوله تعالى (عند الله)، إذ لا عبرة بعندية غيره سبحانه وتعالى…وحث بهذا التقييد على مقتضى عظيم من مقتضيات هذا التشعب بين المجتمعات الإنسانية وهو التنافس في طلب التقوى والمعرفة بالله التي بها صلاح الدنيا والآخرة، وبدونها فسادهما معا…
وما أرق القرآن وأدقه حينما تتبصر في الموضوع المختوم به هذه الآية العظيمة، (إن الله عليم خبير)،
على أي شيء يقع علمه وما دخل العلم ههنا؟ إلى أي شيء تعود الخبرة وما دورها ههنا؟
أما أولا: فلما تخالف الناس فهما وسلوكا في تعريف الكرامة وتحقيقها في الأنفس، أرجع الله حقيقتها إلى علمه، حيث لا علم يصح مع علمه ولا علم يفوق علمه، فقال (عليم) بحقيقة الكرامة، فلتثق بعلمه وأَنْكِرْ ما علمت وتعلمت أو ما فهمت وفُهِّمتَ فهو زيف وبطلان لا شك…وأرجع الأمر إليه.
وأما ثانيا: وما أدراك ما أسرار الثاني، أنه عز وجل أَعلَمَ بأن الكرامة هي التقوى، وعلم أن بعض المغرر بهم قد يرى من نفسه أمارة التقوى أو سلوك طريق الأتقياء فيزكي نفسه فيصير يتعاظم على غيره بما لا يعلم أمره وحقيقته إلى علام الغيوب المطلع على القلوب؛ فنبه إلى هذا بطريق الإشارة والاختصار اللطيف قائلا (خبير)، وهي صفة زائدة على العلم بالشيء حيث تتعلق بدقائق المعلوم وأسراره، ألم تسمع قوله (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)[النجم/32].

فحمدا لله على نعمة الهداية والصلاة والسلام على الهادي الأمين ولا حرمنا الله شفاعته يوم الدين آمين والحمد لله رب العالمين.

كتبه عدنان بن عبد الله زُهار

كان الله له       

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى