مقالات

مقاصد الحج وغاياته في أول ركب للحجيج المغربي نظمه أبو محمد صالح الدكالي سنة 631 هـ

منذ ظهور الإسلام، واشتداد الحاجة إلى من ينزل أحكامه وتشريعاته على أرض الواقع المعاش، وحملة همِّ هذه الأمة يبتكرون الوسائل ويصنعون الآليا التي تخدم الدين وفقا لمقتضيات الواقع المعاش، وهاهي الزاوية كمؤسسة دينية اجتماعية اقتصادية جهادية برجالاتها الذين يحققون المعنى الحقيقي للرجولة، يساهمون بكفاءة عالية في تصحيح ما أفسده الزمان من تعطيل بعض أركان الإسلام تحت غطاء فزاعة التهلكة، وقتل النفس التي حرم الله،

 

وضياع المال، وأمثال ذلك من المقولات لتبرير واقع وهمي لو أناخ بكلكله على أنفاس المغاربة لتعطل ركن الحج وانمحى اثره من قاموس الاسلام عند المغاربة، لكن همم الشوامخ من أهل التصوف أرجعوا القاطرة إلى السكة التي حركته من جديد نحو إتمام وإكمال الدين بكل أركانه، فهاهو سيدي محمد الصالح الماجيري من مدينة آسفي يؤسس ستة وأربعين زاوية منها إلى مكة المكرمة مرورا بالمغرب الأوسط وإفريقية والصحراء الليبية ومصر وبلاد الشام مرورا بفلسطين نحو المدينة المنورة وانتهاء بمكة المكرمة لتأمين طريق ركب الحجاج وأداء الركن الخامس في مأمنن قطاع الطرق والمفسدين في الأرض.

 

مقاصد الحج وغاياته في أول ركب للحجيج المغربي نظمه أبو محمد صالح الدكالي سنة 631 هـ
محمد علوي بنصر
العدد 350 ذو الحجة 1420/ مارس 2000
* الحج لغة: مطلق القصد إلى معظم. (1)
* وشرعا: قصد بيت الله الحرام في زمن مخصوص لأجل النسك. (2)
وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، كما جاء في حديث رسول الله (ص): “بني الإسلام على خمس… وحج البيت”. (3)
وقد خصه الشارع بشروط وأركان تحدد أقواله وأفعاله، وترتب مناسكه ومشاعره.
والحج مجمع العبادات، ومن أشرف مقاصدها، فيه كل ما أمر الله به من خير وعبادة، وفضل وزيادة، تنوعت أهدافه، وتعددت غاياته، وفي كل عصر يظهر منها ما خفي على من تقدم، تهفو إليه القلوب، وتطمح إليه النفوس، متحملة كل مشقة في صبر وجلد، وتضحية وكبد، باذلة ما تستطيع، وفوق ما تستطيع.
يجد الحاج لهذه العبادة مذاقات تعلو عن استنباط العقل، ويحس مواجيد تضيق عنها عبارات اللغة، لأن الحق سبحانه لا تحد حكمته في عبادته، ولا يحاط بأسرار تكليفه، وحسب الحاج ما يناله من صفاء آثار، وتجليات أنوار، واكتناه أسرار.
ومن أسراره: أنه رمز لوحدانية الخالق، ورمز لوحدة المخلوقين، وإذا كان الناس يعبدون إلها واحدا، فإن المنطق يقضي بأنهم أمة واحدة.
الحج إلى بيت الله زاخر بالتكاليف العبادية، إحراما من المواقيت، وطوفا حول البيت، واستلاما للحجر، وسعيا بين الصفا والمروة، ووقوفا بعرفة، وذكرا عند المشعر الحرام، ورمي الجمرات، وذبح القربات، وحسب المؤمن الحاج أن يفعلها لرب العالمين، وامتثالا لأمره تعالى، ويكفيهم أن يطمئن الله بالهم بقوله: “ليشهدوا منافع لهم”. (4)
والمنافع جاءت في الآية نكرة في سياق الإثبات، فتفيد عموم المنافع، ما ظهر منها وما بطن، وقصرها على المنافع المادية هو تخصيص يفتقر إلى مخصص، فلو لم يشهد الحجاج المنافع التي وعدهم الله بها، ولو لم يتذوقوا حلاوة العطاء، وروحانية الصفاء، لاكتفوا بما أدوا من فرض يطلبه الله إلا مرة واحدة.
ولكن، كيف يصبرون عن حفاوة ربهم بضيفه في بيته، وهو أكرم من حبا، وأقدر من أثاب، فيشتاقون إلى العودة مرة مرة…؟ لن يمتنع العقل عن أن يقتنع بضرورة الحج إلى بيت الله وهو يستقبله في كل صلاة: “وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره”. (5)
وإذا كان المومن قد علم البيت على اليقين، فلماذا لا يشهده حتى يرتقى إلى عين اليقين، وحين تفاض عليه بركات البيت في البلد الأمين، يكون قد ظفر بمرتبة حق اليقين؟
وكيف يعجز العقل عن إدراك حكمة الحج إلى بيت “ومن دخله آمنا” (6) دون تضييق لواسع العموم في الأمن، يقصره على الأمن من الناس دون الأمن عند رب الناس.
“والذي نفسي بيده لو لم يكن الحج ركن إسلام لحتم شوق القلب، ولهفة الروح، وهيام الوجدان على المومن أن يرحل إلى بيت الله ليشهد مهابط الوحي الأمين، ومطلع سيد المرسلين، وخاتم النبيئين، وليشحن روحه بطاقات اليقين من ذكريات هاجر، وفدائيات إسماعيل وإبراهيم”. (7)
وإذا كان الحج يجمع بين المنافع والذكر، فإن الأحاديث المرغبة فيه، قد عملت كتب الحديث على استيعابها يتصدرها قوله (ص):
“من حج فلم يرفث ولم يصخب رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه”. (8)
“العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”. (9)
من هذا الفهم الصافي لركن الحج، ومن هذا الفهم الرباني له اعتمد الصوفي “أبو محمد صالـــح” (10) دفين آسفي مبدأ الحج لمن يريد أن ينخرط في طريقته، وينضم إلى أتباعه، والملازمين لأوراده، وهو بهذا المبدأ يحقق غاية تربوية سامية تقصر عنها الغايات والهمم، فليس المريد في فهمه من يلازم الشيخ، ويتردد على رباطه، ولكن المريد عنده من أعلن توبته، وأناب إلى الله، وتعهد نفسه بالإصلاح والمراقبة.
إن أبا محمد صالح رفع شعار “الحج إلى بيت الله الحرام” بحيث لا يرابط معه إلا من حج، ولا يمنح أوراده إلا لمن حج، ولا يعلم أصول طريقته إلا لمن حج؛ وبهذا الشعار تميزت طريقته عن باقي طرق الصوفية لعصره وغير عصره.
إن الحج عنده لم يكن غاية في ذاته، وإنما الحج لما يترتب عنه من التزام بالشريعة، ظاهرا وباطنا، حقيقة وسلوكا، التزام يقرب من مقام الإحسان، ومقام الإحسان هو: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. (11) فيكون الإحسان هو التحقق بالعبودية
على مشاهدة حضرة ربوبيته بنور البصيرة، أي رؤية الحق موصوفا بصفاته بعين صفته، فهو براه تعينا ولا يراه حقيقة، ولهذا قال عليه السلام: “كأنك تراه”، لأنه يراه من وراء حجب صفاته بتعين صفاته، فلا يرى الحقيقة بالحقيقة لأنه تعالى هو الرائي وصفه بوصفه، وهو دون مقام المشاهدة في مقام الروح. (12)
وهذا هو الفهم المتعين للحديث الشريف والمقصد الراجح من الإحسان، ولعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهم هذا المعنى حين قال: “ما أكثر الركب، وأقل الحجيج”.
إن غاية أبي صالح من اشتراط الحج: هو تحقيق التوبة، فإذا تاب لإنسان، وأتبع توبته بحجة مبرورة انصرف بعد ذلك بكليته إلى الله، ووجد في سلوك أهل الورع والزهد ما يزيد إيمانه رسوخا، وطاعته إخلاصا، ويقينه صدقا، وقلبه صفاء، فلا ينفك عن ملازمتهم حتى يكون له شأن بينهم، وحتى يبلغ مرتبة اليقين والإحسان.
إن من شأن الحج إلى بيت الله أن يقطع الطريق بين الحاج وبين المعاصي، فمن حضر تلك المشاهد، ورأى بعين قلبه أنوار الوحي، وهي تنسكب من السماء على “غار حراء” أول مرة، ثم تفيض تلك الأنوار على رياض مكة والمدينة، مجللة البقع المباركة بعلم اليقين، وغاشية كل قلب بعين اليقين، وذلك مكسب لا يفرط فيه من باشر قلبه الإيمان، وتمرغت روحه على عتبات بيت الرسول (ص)، إن العادة تميت شوق القلوب، وتقتل طموح النفوس، فتكتفي بالدون، وتقتنع بالركوب.
ولذا كان من شأن أبي صالح أن يعمل على إحياء الموات من القلوب والنفوس حتى تطير شوقا إلى بيت الله، والشوق حين ينشب أظافره في القلوب، والأرواح تكون لنداء الحق مجيبة، ومن حضرة الله قريبة، وحضرته تعالى محل الفاتحة، (13) والمواجهة، (14) والمجالسة، (15) والمحادثة، (16) والمشاهدة، (17) والمطالعة. (18)
وكل ذلك من نتائج الأوراد، وفضائل الأمداد المدركة بالذوق، والمحجوبة عن المداد، حين يصبح المريد حاجا، فذلك بعض من الفيض الذي ينتظره، لأن الحج تربية وعبادة، فإذا ما مارس العبادة فينبغي أن يتعهد بالتربية مادام الحج مقصودا لما يترتب عنه من الصفاء والنقاء، ولعله معنى قوله عليه الصلاة والسلام: “… رجع كيوم ولدته أمه”، وإذا رجع كذلك كان هو دليل “الحج المبرور”.
إذا كان أبو محمد صالح يشترط الحج على من يريد الأخذ بطريقته، فكيف تم له تنظيم ذلك؟ والحال أنه قد انتشرت مقولة بين الناس في القرنين السادس والسابع الهجري مفادها أن الحج ساقط عن أهل المغرب.
إن أحدا مهما أوتي من العلم لن يستطيع أن يعلن جهازا عن سقوط فريضة من فرائض الإسلام، لأن سقوط الفرائض له ضوابط شرعية لا يزيغ عنها إلا هالك، فلن يعدم بين الناس واجد الاستطاعة المالية والبدينة؛ ولكن، من يضمن لحاج تلك الحقبة إلا من على نفسه وماله؟
يظهر أن هذا هو سبب المقولة، فقطع الفيافي، والقفار، والجبال، والسهول، والشعاب، والأدوية، مظنة للمهالك، ومخفى للسراق وعصابات الحرابة والاسترقاق، ناهيك بمن لا يعرف المسالك والمفاوز، فيكون الإقدام على الحج برا مغامرة غير محمودة، والله يقول: “ولا تلقوا بأيديكم
إلى التهلكة”، (19) وإن من شأن هذه المخاطر التي تحفل بذكرها كتب التاريخ والرحلات وحوادثه أن تنفر، وبالتالي أن بحجم الناس عن هذه الفريضة إلى حين أن يتوفر الأمان، وتخلو الطريق من المكاره والمضايق، ولا تبعد الممرات من فتان منتهك للحرمات، أو مهدد بها.
هذا عن الحج برا.
أما الحج بحرا فلم يتوقف أبدا، وكتب الرحلات تحدثنا عن رحلات العلماء والطلاب والفقهاء من المغرب والأندلس إلى المشرق، طلبا لعلو الإسناد، ولقاء الشيوخ والحج، وكثير منهم دونوا رحلاتهم ومشاهداتهم، كما فعل ابن العربي، والباجي، وعياض وغيرهم.
إذا كان الشيخ أبو محمد صالح قد اتخذ من الحج مفتاحا لطريقته، ومبدأ لمريديه، فهو بذلك قد حدد طريقته، وكشف مقاصده وأهدافه وبين وسائله وآلياته.
وإنه من أجل تفعيل تلك المبادئ المتحدث عنها سابقا، نظم ركب الحجيج بالمغرب لأول مرة في تاريخه، فعمد إلى تكوين اتباع لهذا الغرض، وأنشأ الزوايا والربط في كل اتجاه يؤدي على بيت الله، ابتداء من آسفي، وانتهاء بمكة، ومن شأن هذه الزوايا أن يفد إليها من تكون وجهته بيت الله الحرام، فيجد من يساعده – حماية وزادا – على الوصول إلى الزاوية، التي تسلمه إلى زاوية أخرى بعد استراحة واستعداد للناس والدواب، وينضاف إلى الركب المنطلق من آسفي ما تجمع من المريدين والحجاج في كل زاوية أو رباط، وتتضاعف الأعداد وتتكاثر، حتى يصل الركب سالما بيت اله الحرام، وكما بدأ الركب يعود من حيث أتى، وهو يتناقض حتى يبقى أهل آسفي وحدهم.
وفي “المنهاج الواضح”: إن الزاوية المعدة لهذا الغرض تجاوز عددها 46 زاوية، تمتد من المغرب إلى المشرق، مرورا بالمغرب الأوسط ومصر، هذه الزوايا كلها معمورة بمريدين شغلهم الشاغل خدمة الحجيج والمعتمرين، وتسهيل وتيسير وصولهم إلى ما ينبغون، وتأمينهم وحرستهم، من قطع الطريق الموحش بسلام واطمئنان على النفس والمال.
وهذا التنظيم أدهش من أرخ لذلك العصر، الذي كانت فيه المسالك – بقدر ما هي معلومة – كانت مخيفة وموحشة وقاتلة، كانت زوايا الشيخ مليئة بالزاد والأعوان والأنصار، الذين كانوا يستهلون كل صعب وشاق في خدمة الحجيج أو عابري سبيل.
وهكذا عمت طريقة أبي صالح المغرب، وأبطلت مقولة إلغاء الحج عن المغاربة. (20)
وكما حج المغاربة في ركب منظم في القرن السابع هاهم اليوم يحجون في ركب أيضا أكثر عددا، وأدق تنظيما، وأوفر رعاية وأمنا.
فلله در من أحيى هذه السنة الحسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
وبعد، فإذا كنا قد أطلنا الكلام عن مقاصدا الحج وطريقة “أبي محمد صالح” في تنظيم ركبه، فإن من حقه علينا أن نعرف به، وبشيوخه، وتلاميذته، حتى لا يظل مجهولا أو نكرة بين النكرات، وهذا ما سنعمل على إنجازه – بحول الله وعونه ومنه – في بحث لاحق.

1) ن. “الحجاج وتهذيب اللغة واللسان” مادة “حج”.
2) ن. “أنس الفقهاء”، “طلبة الطلبة”، “القاموس الفقهي”.
3) أخرجه البخاري في: كتاب “الإيمان” وكتاب: “التفسير” وخرجه مسلم في كتاب: “الإيمان والحج”.
4) سورة الحج – الآية: 28.
5) سورة البقرة – الآية 144.
6) سورة آل عمران – الآية 97.
7) ن. “لبيك اللهم لبيك”: محمد متولي الشعراوي / ص 45.
8) ن. “فتح الباري”: ج: 3 – ص: 382.
9) ن. “فتح الباري”: ج: 3 – ص: 597.
10) ن. ترجمته في “المنهج الواضح” و”البدر اللائح” / آسفي وما غليه – معيار الاختيار.
11) أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان: باب الإيمان ما هو؟
12) ن. “اصطلاحات الصوفية” ص: 27.
13) الفاتحة معناها: المبادأة، مبدأة العبد بما هو فيه على بساط الضراعة والشكوى والمناجاة / ن شرح حكم ابن عطاء الله للشيخ زروق / ص 419.
14) المواجهة ومعناها: المقابلة، مقابلة القلب بملاحظة الرب دون التفات لغيره، ولا غفلة عن ذكره، ن: المصدر السابق: ص 420.
15) المجالسة ومعناها: الملازمة، ملازمة القلب للذكر بلا غفلة، والخضوع بلا وهلة، والأدب بلا مهلة، / ن: المصدر السابق.
16) المحادثة ومعناها منازلة الأسرار بذكره وإقباله عليها بما يلقبه وبيديه من سر وغيره فيبسط فيه أنواره، ويلقي إليه أسراره / المصدر السابق.
17) المشاهدة ومعناها: صورة الحقيقة لحد العيان، بحيث لا تحتاج لبرهان ولا بيان / المصدر السابق).
18) المطالعة ومعناها: مرافقه التوحيد في كل ورد وصدر، والرجوع إلى الحقيقة المرة بعد المرة / ن: المصدر السابق.
19) سورة البقرة – الآية: 195.
20) كتاب “المنهج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح”: لأحمد بن إبراهيم بن أبي محمد صالح، وكتاب “البدر اللائح في مآثر أبي محمد صالح”: للكانوني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى