مقالات

الحضور الصوفي في ساحات النصر الطريقة التجانية أنموذجا

حضر التصوف بقوة في كل المحطات التاريخية التي مرت بها الأمة الإسلامية، في صراعها مع المتربصين به من أجل تشويه حضوره المتميز في الساحة الدولية، فكان التصوف بحق نموذجا قويا أثيت جدارته في الدفاع عن التوحيد والوحدة. مقالة الحاج عمر مسعود تجلي غشاوة ما تم تزيفه وتحريفه من تاريخ مجيد للتصوف.

 

الحضور الصوفي في ساحات النصر
الطريقة التجانية أنموذجا

لم يكن الإستعمار الفرنسي بالجزائر احتلالا عسكريا أو استنزافا اقتصاديا فحسب وإنما كان يريد إلغاء شخصية الشعب وتذويبها ، لقد كان الاستعمار في الشرق العربي يعرف أن العرب سيظلون عربا ولذلك لم يفكر يوما من الأيام أن يجعلهم انجليزا أو فرنسيين أما في الجزائر فقد حاول أن يجعلهم فرنسيين أو يجعلهم ( لا شيء ) ولذا لاذ الشعب العربي المسلم في الجزائر بالدروع التي هي أقوي الدلالات علي شخصيتهم وأقوى ما يميزه عن أوربا كلها .. دروع الإسلام .. ممثلة في شيوخ الصوفية، وكلما كان الإستعمار الفرنسي يمعن في تمزيق شخصية الجزائريين ومحوها كان الجزائريون يزدادون اعتصاما بهذه الدروع.
وكان يوما مشهودا في الجزائر يوم صلى الجزائريون أول جمعة في مسجد(كنشاوة ) فهذا المسجد الجزائري القديم كان آخر حصن تحصن به المقاتلون الجزائريون يوم احتل الفرنسيون البلاد فسقط في صحنه أكثر من ثلاثمائة شهيد. وكان أول عمل قامت به فرنسا أن حولته إلي كنيسة كاثوليكية. ولقد صمم الجزائريون بعد ذلك الثورة في أول نونبر أن تكون أول صلاة جمعة لهم في هذه الكنيسة بعد أن أعادوها مسجدا . وقد كانت ملاحم الصوفية في سبيل الله واستعادة هوية الأمة المسلمة شاهدا ومشهودا فأنظر إن شئت إلي موقف التجانيين والقادريين والشاذليين والدرقاويين وغيرهم .. ترى أمرا يملأ العين ويشرح الصدر ويعظم في القلب..
خذ الطريقة التجانية مثلا فقد ثار الشريف سيدي أحمد عمار ( حفيد الشيخ التجاني) في وجه فرنسا ثورة امتدت لعدة سنوات. وفي أوائل سنة 1860 اقتحمت الجيوش الفرنسية بقيادة الجنرال ( سونيز) بلدة عين ماضي مقر الشريف سيدي أحمد عمار وقمعت الثوار واعتقلت الشريف سيدي عمار وسجنته في مدينة الجزائر سنة كاملة، ثم قامت في الحرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا.
خافت فرنسا على وضعها الاستراتيجي في الجزائر أن يهتز فيؤثر على حربها في أوربا ولم تخش إلا ذلك الرجل – الشريف سيدي محمد عمار – فنفته من الجزائر واعتقلته في فرنسا، ثم خشيت أن يقوم أخوه الشريف سيدي محمد البشير بالثورة أيضا فاعتقلته والحقته بالمنفى، وبقيا طوال الحرب السبعينية معتقلين في فرنسا .
ثم جاء أبناء الشريف سيدي محمد البشير ليواصلوا الجهاد والحرب على فرنسا فهذا هو الشريف محمود بن الشريف سيدي محمد البشير يتعاون تعاونا وثيقا مع الأمير عبد الكريم الخطابي أمير الجهاد في حرب الريف . وقد خرج الشريف سيدي بنعمرو- وهو الإبن الأكبر للشريف محمد الكبير بن الشريف سيدي محمد البشير – وطاف العالم العربي والإفريقي فدخل مصر والسودان والسنغال ومالي ونيجيريا والكنغو يشرح القضية الجزائرية ويدعو المسلمين للتكاثف وتأييد إخوانهم في الجزائر، وكانت فرنسا تراقب نشاطه، ولما عاد للجزائر تم استجوابه واعتقاله ، وقد نشرت مجلة المصور المصرية في عددها الصادر في 14 / 12/ 1956 صور بعض زعماء جيش التحرير الجزائري وكان أحد هؤلاء الزعماء من التجانيين وفي 18/3/1957 أذاعت محطة ( صوت العرب ) من القاهرة أن الفرنسيين اعتقلوا الشريف سيدي بنعمرو زعيم التجانيين والسيد باش أغا حميدة والسيد مولودي ووجدوا عندهم صلة وثيقة بالثوار ، وهؤلاء الثلاثة من زعماء التجانيين ، لقد تربى التجانيون على بغض فرنسا التي حاولت مسح الشخصية المسلمة ومحو الهوية العربية.
وانظر ما كتبه عبد الله شليفر مستشرق أمريكي مسلم له عدة دراسات منها كتاب ( سقوط القدس) وكتاب ( فكرة الجهاد في العصر الحديث ) وقد نشر بحثا بعنوان ( الشيخ عزالدين القسام : حياته وفكره وقال في بحثه : في 21 تشرين الثاني نونبر 1935 نشرته صحيفة جيروز الم بوست على ثلاثة أعمدة في صدر صفحتها الأولي نبأ اصطدام رجال الشرطة البريطانيين بمسلحين عرب بجوار (جنيين ) واصفة المسلحين برجال العصابات وقطاع الطرق ذاكرة أن الشيخ عزالدين القسام كان بين القتلى ناعتة إياه بمنظم العصابة غير أن دوائر الاستخبارات البريطانية والصهيونية أعلم بالحقيقة فهي تعرف أن الشيخ عزالدين القسام رئيس لجمعية الشبان المسلمين وخطيب واسع الشعبية في جامع الاستقلال بجوار محطة حيفا الحديدية ومأذون في محكمة حيفا الشرعية ثم إنه كان تحت المراقبة وقد استدعي للتحقيق معه ووجه إليه التحذير من الدعوة العلنية للجهاد ضد الاحتلال البريطاني والاستعمار الصهيوني خلال العقد المنصرم ثم إنه كان متهما بتنظيم سلسلة من الهجمات المسلحة السرية على المستوطنيين اليهود والموظفين البريطانيين في حيفا وجوارها ابتداء من أوائل الثلاثينيات .. وانتقل إلي جبل جار ( يعبد ) بين نابلس وجنيين في أوائل تشرين الثاني نزنبر وبعد مقتل شرطي يهودي عامل في القوات البريطانية طوقت مجموعة عزالدين القسام بقوة كبيرة من الشرطة والجيش البريطاني، ودعيت للاستسلام غير أن عزالدين القسام دعا رجاله للمقاومة والاستشهاد وفتح النار على القوة التي كانت تطوقه وقد ألهب تحديه والطريقة التي استشهد بها حماس الشعب الفلسطيني..
وبعد خمسة اشهر استطاعت مجموعة من المجاهدين بقيادة أحد رفاق عزالدين القسام أن تنصب كمينا لمجموعة من اليهود في شمال فلسطين وفي الأسابيع اللاحقة نشأت في مختلف أنحاء فلسطين مجموعات من الفدائيين في القرى والمدن بقيادة أخرين من أنصار عزالدين القسام وبذلك بدأت ثورة عام 1936م.
ولد عزالدين القسام في جبلة في منطقة اللاقية في سوريا عام 1882م – 1300 وكان جده وشقيق جده اللذان قدما إلي جبلة من العراق شيخين بارزين في الطريقة القادرية كذلك كان والده عبد القادر موظفا في المحكمة الشرعية في ظل الحكم العثماني، وهناك قول آخر بأن والده كان يتبع الطريقة النقشبندية أيضا والتي لعبت دورا ملحوظا في مكافحة الفتوح الاستعمارية في القرن التاسع عشر في سوريا. وفي أوائل العشرينات التقى عزالدين القسام بالشيخ الجزائري محمد بن عبد المالك العلمي الذي عمل علي الحصول علي إذن لزوجة عزالدين القسام وبناته للخروج من سوريا واللحاق بالشيخ في فلسطين وللشيخ الجزائري اثر آخر على الشيخ عز الدين القسام فهو مقدم في الطريقة التجانية جاب الشرق العربي في أوائل القرن العشرين وأنشأ فروعا وزوايا لهذه الطريقة في مصر والسودان وليبيا وسوريا وفلسطين والعراق والجزيرة العربية وأدخل عز الدين القسام وثلاثة آخرين في هذه الطريقة حتى بلغ رتبة مقدم فيها. وإذا كان عزالدين القسام لم يسع إلي إدخال الآخرين في هذه الطريقة فإن حركة المجاهدين التي بناها في حيفا كانت على أساس الطريقة التجانية.
في حياة عز الدين القسام شيء يصعب إدراكه حتى علي أشد المعجبين بالحركة القومية العربية فهذا أحمد الشقيري يكتب بتأثر عن محاولته كمحامي قوي شاب للدفاع عن القساميين الذين نجوا بعد معركة ( يعبد) ويشير إلي ذهوله أمام هدوئهم ورباطة جأشهم بانتظار المحاكمة ، لقد اعتقد أحمد الشقيري في بحثه عما يدافع به عنه أن القساميين تعرضوا لتعذيب وإكراه على الاعتراف والواقع أنهم اعترفوا بحرية بإسهامهم في المعركة وقالوا إنهم مجاهدون في سبيل الله ولن يصيبهم إلا ما كتبه الله لهم ) انتهي ما نقلناه من بحث المستشرق المسلم عبدالله شليفر.
وفي كتاب ( الإسلام والنصرانية في إفريقيا ) لمؤلفه الفرنسي ( بوني موري) تحت عنوان ( التجانية ) :هنالك الطريقة التجانية مؤسسها أحمد بن محمد التجاني المتوفي في فاس سنة 1782 وكان يتظاهر بالتسامح مع غير المسلمين ومع هذا ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تقف التجانية عن استعمال القوة في مخاصمة أقرانهم ونشر العقيدة الإسلامية وأهم مراكز التجانية عين ماضي على بعد  سبعين كيلومترا في الجنوب الشرقي من الأغواط وفي تماسين وهم كثيرون في مراكش ( المغرب ) ولقد تبع الطريقة التجانية عدد كبير من أهل ( ماسينا) في السودان ( وأهالي فوتا تورو) و ( فوتا جالون ) وصاروا من أشد أنصار الإسلام وانضموا تحت راية الحاج عمر الفوتي هذا ابن شيخ مرابط ولد سنة ( 1779 ) في قرية الفار من بلاد ( ديمار) فرباه أبوه وعلمه ثم حج البيت الحرام وزار المدينة وقرأ مدة في الأزهر وعاد إلي (بورنو) سنة 1833 ثم ذهب إلي بلاد الهوسا وأخذ يعض الناس بالرجوع إلي عقيدة السلف وفي أثناء ذلك جاء أخوه ومضى به إلي بلاد ( فوتا السنغال) فعرج على بلاد( البمبارا) وحصلت معه هناك حوادث وعوارض كثيرة لكنه تغلب عليها وانضم إليه في بلدة( كونكان ) رجل يقال له محمدو سار على طريقته وأدخل في الإسلام فرقة من ( البله) يقال لهم( الواسو لونكه) ولما علت كلمة الحاج عمر الفوتي ونظر إليه الناس نظرهم إلي المهدي حشد جيشا صغيرا وآثار جميع مسلمي بلاد( غابون ) وهزم البمبارا الوثنيين شر هزيمة في( مونيا ) واستولى بعدها علي ( كونياكري) سنة 1854 وجعل مقره العام في( نيورو) ثم استولى على مملكة (سيقو) وعلى بلاد ماسينا وكانت وفاة الحاج عمر الفوتي سنة 1865م وهو في حرب مع مسينا ثم وقد خلف للطريقة التجانية سلطنة إسلامية عظيمة في وسط بلاد الزنوج الفتيشيين. ثم خلف الحاج عمر الفوتي ابن أخيه ومريدا آخر له اسمه أحمدوا شيخو وحاولا توسيع فتوحات الحاج عمر وآثارا أهالي فوتا تورو والسوننكة الذين في بلاد كاراته والتوكلولور الذين في السنغال على فرنسا فصار وجود هذه السلطنة التجانية في وسط السودان خطرا عظيما على سيادتنا وكان تحرير الخلاف هو هذا : هل يتم تمدين السودان الغربي على يد فرنسا وضباطها المبشرين المسيحيين أم على يد التجانية رسل الإسلام ؟. فالكولونيل ( ارشينارد) بأخذه( جنة ) و( بندجاقار) أوقف غارة التجانية في هذا القسم من إفريقية ويسر فتح السودان بين يدي المدنية الأوروبية ثم عقب ذلك فتح الكولونيل ( دور غنيس ديبورد) لبلد باماكو واستلحاق القومندان ( غلييني ) لبلاد( فوتا جالون ) وافتتاح الكولونيل ( ارشينارد) لبلاد ( ماسينا ) وتتوجت جميع هذه الفتوحات باحتلال ( تمبكتو) في 10 يناير 1894 مما خلد أعظم الشرف للعساكر الفرنسيين، وأعاد ذكرى ظفر (شارل مارتل ) في بواتييه بسبب ما كان يترتب من النتائج العظام لمستقبل إفريقية في ما لو لم يتم هذا الظفر – انتهي كلام ( بوني موري) أنظر كتاب ( حاضر العالم الإسلامي ).
فها هو رأي الفرنسيين في الطريقة التجانية وكيف أنهم يعتبرونها أكبر عدو لهم في المنطقة وأنهم هم الذين كانوا يعوقون تقدم الاستعماريين الفرنسيين ولقد علق الأستاذ الأمير شكيب أرسلان على كلمة هذا الكاتب بونه موري التي في آخر المقال أعلاه وهي : أعاد ذكرى ظفر ( شارل مارتل ) في بواتييه بسبب ما كان يترتب من النتائج العظام لمستقبل إفريقية في ما لو لم يتم هذا الظفر : قال : يشير إلي أن إفريقية كانت تكون كلها إسلامية لولا قضاء الفرنسيين على السلطة التجانية هذه كما أن أوربا كانت تكون إسلامية لولا انتصار شارل مارتل على العرب في بواتييه وهذه الكلمة التي يتفق عليها مؤرخو الأفرنج. يقول د. عبدالله عبدالرازق إبراهيم في كتابه ( المسلمون والاستعمار الأوربي لإفريقيا ) وفي عام 1852م أعلن الحاج عمر الفوتي الجهاد ضد الوثنيين في السودان الغربي واستطاع خلال عشر سنوات أن يسيطر على كل السودان الغربي من حدود مدينة تمبوكتو حتي حدود السنغال الفرنسية ورغم أنه اعتبر نفسه مصلحا دينيا وأعلن الزهد في الأمور الدنيوية المؤقتة إلا أنه كان مستعدا لتحقيق أماله من خلال الطرائق السياسية والعسكرية واعتبر الحاج عمر الفوتي أن رسالته المقدسة هي تنقية الإسلام في السودان الغربي من كل ما علق به من شوائب، ووضع حد للوثنية وتطبيق الشريعة الإسلامية. ومن هنا وضع نفسه على رأس دولة إسلامية واتبع أسلوب العنف في تحويل الناس الوثنيين إلي الشريعة الإسلامية، وقام ببناء المساجد ونشر المدارس القرآنية في كل أرجاء المنطقة التي امتدت إليها حركته الإصلاحية، وكان حماس جيشه واضحا في تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية وكان هذا الحماس سببا في زيادة عدد الأتباع الذين انتشروا على نطاق واسع يدافعون عن الدين ويعيدون للإسلام مجده في هذه المنطقة، لدرجة أن حاكم السنغال الفرنسي عبر عن دهشته لهذا الحماس الديني واندفاع المسلمين بكل شجاعة وقوة نحو نيران الفرنسيين سعيا في الإستشهاد في سبيل الله والوطن . وكان الحاج عمر الفوتي قد أرسل إلي المسلمين في سانت لويس يطلب منهم شن حرب مقدسة ضد حكامهم الوثنيين والمسيحيين، ووعدهم بمحاربة الفرنسيين حتي يطلبوا السلام منه وقال : ( إن الحرب ضد الوثنيين يجب أن تستمر حتى يوافقوا على دفع الجزية) وكانت هذه الدعاية التي نشرها الحاج عمر الفوتي على طول نهر السنغال ضد الفرنسيين من العوامل التي جعلت القائد الفرنسي فيدهرب يخشى قوة الحاج عمر الفوتي ويفكر في دراسة الموقف جيدا على نهر السنغال بل ذهب شخصيا في احدى السفن إلى (باكل) لمعرفة الأخبار على أرض الواقع وأدرك (فيدهرب) أن الحاج عمر الفوتي يرغب في أن يدفع الفرنسيون ضرائب له بالإضافة إلى منعهم من إقامة مراكز عسكرية علي طول شواطئ النهر وأكد (فيدهرب) في مراسلته المستمرة إلي باريس علي أن الحاج عمر الفوتي ينوي شن هجوم شامل على الفرنسيين أسوة بالأمير عبد القادر الجزائري وفي فبراير عام 1856 كتب إلي وزير المستعمرات والبحرية قائلا ( إن الحاج عمر الفوتي ينظم لثورة عامة ضدنا ) .كل هذه الأمور كانت سببا في أن يتحفز الفرنسيون لاتخاذ إجراءات عسكرية لمواجهة خطط قائد المسلمين ويترتب على ذلك قيام الفرنسيين ببناء قلعة في مادينا في مقاطعة كاسو Khasso ووقع فيدهرب معاهدة الصلح والتجارة مع سامبالا ملك كاسو. وبعد أن ثبت فيدهرب مركز الفرنسيين على طوال نهر السنغال بدأ يسعى لعقد معاهدة سلام مع الحاج عمر الفوتي فأصدر قبل سفره إلي باريس تعليمات إلي نائبه موريل بشأن التفاوض مع الحاج عمر الفوتي على مشروع الإعتراف به كملك (الكارتا) مقابل أن يحد من نشاطه في هذه المنطقة . ويتضح من هذه المحاولات أن الفرنسيين يحاولون التعامل مع الحاج عمر الفوتي مثلما يتعاملون مع الأمير عبد القادر الجزائري بعد توقيع اتفاق تافنه Tafna معه في عام 1837 ويعني هذا تدعيم موقفهم قبل الدخول في توسيعات كبري وبعد عودة فيدهرب إلي السنغال في نهاية عام 1856 بدأ الحاج عمر الفوتي كفاحه المباشر مع الفرنسيين بمهاجمة مركز مادينا وهو الأمر الذي ضيع فرص السلام بين الطرفين وكان الحاج عمر يرغب بعد غزو كارتا في أن يضم وطنه في (فوتا تارو) إلي المناطق التي سيطر عليها خصوصا وأن سكان المنطقة كانوا من المتعصبين لقضيته وكانوا يكرهون الحكم المسيحي الذي يعتبر بمثابة الشوكة في صدورهم، ذلك لأن الفرنسيين يحاولون تدمير القرى التي يسكنها أعوان الحاج عمر الفوتي. وفي الشهور الأولي من عام 1857 بدأ الحاج عمر هجومه على قلعة مادينا واحتل أحدى المناطق في كاسو وتدعى تومرو(Tomoro ) دون قتال واقترب من النهر في 14 أبريل هاجم سابوسيري Sabourire عاصمة مقاطعة الفرنسيين لوجو Logo واتخذها مقرا لعملياته العسكرية ضد الفرنسيين وفي العشرين من أبريل وصل جيش المسلمين إلي منطقة مادينا حيث بدأ الحصار وكان الجيش يسير في ثلاثة طوابير بلغ عددها 15000 مقاتل وكانت حامية المدينة تضم 64 رجلا بقيادة بول هول Paul Holle  الذي استطاع إرسال أحد رجاله إلي (باكل) ليخبر القيادة الفرنسية عن الوضع في (مادينا) وفعلا صدرت الأوامر لإحدى السفن الفرنسية بالتوجه إلي مكان العمليات العسكرية في مادينا لكن هذه السفينة تحطمت على إحدى الصخور ومنع الحاج عمر الفوتي رجالها من الوصول إلى القلعة المحاصرة وظلوا في حطام السفينة . وفي أوائل يونيه قرر فيدهرب أن يقود بنفسه حملة لإنقاذ حامية مادينا ووصل بقواته إلي حطام السفينة المحاصرة لكن جنودها كانوا قد ماتوا من الحمى، وفي الوقت نفسه كان مصير بول هول وحامية مادينا يتوقف على حصول حملة الإنقاذ ووصل فيدهرب فعلا إلي المنطقة في 18 يوليوز أي بعد حوالي ثلاثة أشهر من بدء الحصار، فوجد عددا من سكان المدينة قد ماتوا جوعا بسبب رفض بول هول الاستسلام لقوات الحاج عمر الفوتي ونجح فيدهرب في إنقاذ مادينا ذلك النجاح الذي كان امتحانا لقوات الحاج عمر الفوتي حيث توقف نشاطه في المنطقة لمدة عامين بل تحرك من سابوسيري ولم يعد لهذه الأماكن إلا في عام 1859 عندما هاجم المركز الفرنسي في ماتلم Matam  الذي كان أيضا تحت قيادة بول هول الذي أصاب قوات الحاج عمر الفوتي بخسارة فادحة حيث نقص عدد الجيش إلي النصف أي من 15000 جندي إلي 7000 جندي . بعد هذه النكسة التي حلت بقوات الموحدين انسحب الحاج عمر الفوتي إلي جيومو Guemou التي تبعد حوالي أربعين كيلومترا عن باكل وبنى حصنا هناك وبدأ يعرقل تجارة الفرنسيين على طول نهر السنغال ولهذا قرر فيدهرب تدمير حصن جيومو وعهد بهذه المهمة إلي بعثة استكشافية بقيادة الضابط فارون Faron  وفي 25 أكتوبر هاجم فارون الحصن واستولى عليه بعد أن أصيب بعدة جروح لكن الحاج عمر الفوتي كان قد انسحب منه قبل وصول البعثة الفرنسية وقتل ابن أخ الحاج عمر الفوتي ودمر الحصن تماما .. شعر الحاج عمر أن النضال ضد الفرنسيين لن يتوقف وأن طمع الفرنسيين لا حدود له وأن محاولات عقد الصلح معه ما هي إلا مرحلة مؤقتة في خطط الفرنسيين لابتلاع ممتلكاته وضمها للسيطرة الفرنسية، ولذا فإنه قرر ترك هذه المنطقة والاتجاه إلى منطقة النيجر على أمل التحالف مع زعماء المسلمين هناك في محاولة لتوحيد صفوف المجاهدين ضد عدو أوربي يطمع في السيطرة على بلادهم كانت هذه هي استراتيجية الحاج عمر الفوتي في مرحلة سدت فيها كل السبل أمام إيقاف التوسع الفرنسي وهي استراتيجية تدل على بصيرة قوية وعقلية عسكرية تواجه هذه التحديات الأوربية ، لكن أفكار الحاج عمر الفوتي لم تجد من يفهمها في المناطق الجديدة التي احست أنه جاء لغزوها والقضاء عليها فتحالفت ضده وتآمرت عليه في وقت هو في أشد الحاجة إلي مؤازرتها والوقوف معه ضد العدو المشترك ولهذا ضاعت جهود هذا المناضل الإسلامي في صراعات جانبية مع هؤلاء الزعماء المسلمين واضطر إلي الدخول في حروب ضدهم.
وهكذا استشهد هذا المناضل الإسلامي وهو يناضل من أجل بناء دولته الإسلامية عن عمر يناهز السبعين عاما حاول خلالها مقاومة التوسع الفرنسي بكل ما أوتي من قوة وترك لأبنائه مسئولية هذا العبء الكبير. كان جهاد الحاج عمر الفوتي وأبنائه مثالا من الشجاعة والإقدام وكان الإصرار على المحافظة على أمبراطورية إسلامية ناشئة في فترة كان التكالب الأوربي على القارة قد اتخذ شكلا عسكريا وجعل الحاج عمر الفوتي يخوض المعارك في جبهتين : أحداهما داخلية مفككة ومتصارعة والأخرى خارجية منظمة وعلى أهبة الاستعداد لخوض المعارك للاستيلاء على أراضي السلمين لذا كان الجهاد صعبا والمقاومة عنيفة . كان على الحاج عمر الفوتي أن يعمل بشكل مستمر على استتباب الجبهة الداخلية وأن يواصل الجهاد للقضاء على الوثنيين، وفي الوقت نفسه مقاومة أطماع الفرنسيين ومن هنا طال أمد النضال واستمر جهاد الحاج عمر الفوتي وأبنه أحمدو مدة قاربت نصف قرن من الزمان أرهقَ فيها المسلمون الفرنسيين الذين اضطروا إلي تغيير القيادة أكثر من مرة وتحملت الميزانية الفرنسية نفقات كثيرة وتكبدت القوات الفرنسية أعدادا كبيرة من القتلى والجرحى، لكن رغم كل هذا فقد فعل التسليح الأوربي دوره في هذه اللقاءات وحسم الموقف لصالح الفرنسيين إلى حين يستعد المسلمون لجولة جديدة من النضال خصوصا وأن مبادئ العقيدة قد ترسخت في القلوب ولم تستطع قوى البغي والقهر والعدوان أن تنال منها وهذه من أعظم ثمار جهاد الحاج عمر الفوتي التكروري الذي استشهد في المعارك العسكرية وهو يدافع عن دين الإسلام وحضارته.
وإذا كان الجهاد في سبيل الله قد واجه المسيحيين في غرب إفريقيا وانتهي اللقاء لصالح قوى المسيحيين إلا أن الطريقة التجانية ظلت كامنة في النفوس عالقة في القلوب بل ازداد المسلمون تمسكا بها وحافظوا على تقاليدها في وجه التيارات المسيحية والوثنية وظلت هذه الروح الثورية الدينية تمارس نشاطها وتحافظ على العقيدة الإسلامية حتى هبت كل شعوب المنطقة في وجه الإستعمار الفرنسي وأجبرته على أن يحمل عصاه ويرحل عن أرض القارة الإفريقية التي عادت للإسلام والمسلمين .
كان الحاج عمر الفوتي مغامرا من نوع جديد ورجلا صلبا لا يلين لديه آمال كبيرة لبناء امبراطورية تتخذ من الشريعة الإسلامية أساسا لها ومنهاجا وما كان يدري أن الطريق ملئ بالأشواك وأن المنطقة التي اختارها لبناء دولته تكتظ بالمشكلات الداخلية والصراع الأوربي عليها، فناضل وكافح وفتح جبهة هنا وجبهة هناك واستخدم أسلوبي الدبلوماسية والحرب كان يهادن في جبهة ليتفرغ للأخرى وساعده كل هذا على نشر الطريقة التجانية التي تعمقت في نفوس الناس، وصارت تضاهي الطرق الصوفية الأخرى ولو فهم المسلمون ما يرمي إليه هذا الشيخ المجاهد والجهود التي يبذلها لبناء دولة إسلامية لوقفوا إلى جانبه في صراع الأوروبيين لتغَير الوضع تماما لكن للأسف الشديد عانى الحاج عمر الفوتي من المسلمين والوثنيين الذين تكاتفوا ضده واعتبروه غازيا وعقدوا حلفا ضده وهو في أمس الحاجة لجهودهم وحاصروه وهو يناضل من أجل الوقوف في وجه الفرنسيين وسقط هذا الزعيم شهيدا برصاص المسلمين الذي تتبعوه وحاصروه حتى قضوا على جهوده واستشهد الحاج عمر الفوتي وهو في روعة انتصاراته وفي قمة صراعه مع الفرنسيين الذين عانوا كثيرا على يديه . ورغم سقوط امبراطورية التوكولور إلا أن أتباع الحاج عمر قد اكتسبوا شهرة القيادة الإسلامية في السودان الغربي وانتشرت التجانية بعد ذلك وقاومت التبشير المسيحي الذي اجتاح امبراطورية التوكلور في أعقاب السيطرة الأوربية ورغم سقوط الامبراطورية سياسيا إلا أنها استمرت تمارس حياتها الدينية وحافظت على تراث الإسلام وحضارته أمام موجات الغزو والتوسع الأوربي والتبشير المسيحي.
إن عداوة أهل الطريقة مع سائر المستعمرين معروفة عند المنصفين ولو ذهبنا نقص عليك عداوتهم مع الإستعمار الإنجليزي في مصر والسودان وفلسطين لطال بنا الكلام.
بقي تنبيه يجب أن نلفت النظر إليه أن الصوفية في عداوتهم مع المستعمر لا يعادونه لأنهم من زاوية صوفية فقط، كما يدعي البعض وإنما لأنهم مسلمون يغارون على دينهم ويعلمون أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وأنه ليس للمسلم إلا أن بذل نفسه كما ورد في الحديث الشريف. فمن هذه القاعدة انطلقوا وبهذا المنظور توجهوا فأهل الإسلام كلهم- صوفية -وغيرهم  يد واحدة على جميع المستعمرين بجميع أنواعهم

بقلم: الشيخ عمر مسعود

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى