أعلام الطريقة

الترجمة الوافية بـأخبار سيدي الطاهري بنحمو عالم الحضرة التطوانية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الفاتح وعلى آله وصحبه، قال الله جل ذكره: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)سورة الأحزاب:23

وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِي)سورة: فضلت 33

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” أورده ابن عدي والدراقطني وأبو نعيم وابن عبد البر، حديث حسن كما جزم به العلائي.
وبعد:
فهذه نبذة مختصرة، وعجالة مستصغرة عن حياة والدي الكريم الفقيه الجليل المقدم البركة، سيدي وسندي محمد الطاهر بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم بن حمو اليذري أصلا والتطواني قرار ومدفنا رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وبوأه مقاما رفيعا، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، في جنة النعيم، فضل ربنا الغفور الرحيم.
حررتها في سويعات سريعة تلبية لرغبة من لا تسعنى مخالفتهم، معتذرا عما يكون قد وقع فيها من أخطاء وسوء أدب عن غير قصد ومن عدم التنسيق وحسن الترتيب، لأني لم أخرجها من مشطبتها بعد فهي تحير أولى فقط.
في ذمة الله تعالى
الفقيه الجليل العلامة النبيل المقدم البركة الفاضل، الداعي إلى الله تعالى بلسان حاله ومقاله، الذي نفع الله به كثيرا من خلقه، سيدي محمد الطاهر بن سيدي محمد بن أحمد بن أبي القاسم بن حمو.
لقد لبى نداء ربه، وفاضت روحه الطاهرة وانتقل إلى الرفيق الأعلى يوم السبت 17 ذو القعدة الحرام سنة 1432هـ موافق 15 أكتوبر 2011 على الساعة الثامنة وعشرين دقيقة، عن سن أربت على المائة وأربع سنوات إذ كان مولده رحمه الله تعالى سنة 1325 هجرية.
بعدما عانى من عجز الهرم والشيخوخة لمدة نح 4 سنوات عجزا بدنيا فقط أما عقليا وروحيا وتباتا ودعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، ومحافظة على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها ولزوم ذكر الله والخشية من الله تعالى وكانت تغلب عليه أحيانا فيبكي ويلوم نفسه على التقصير ويقول اللهم ” قنا شر أنفسنا “، ” وعاملنا بفضلك يا الله ” فلقد صحبته هذه الأحوال ولم تنفك عنه إلى آخر رمق من حياته رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وعلى الجملة فهذا السيد الجليل رحمه الله تعالى كان نموذجا فريدا، ومثالا حيا في تقوى الله عز وجل، والاستقامة والجد والاجتهاد في عبادة الله تعالى. والتخلق بالأخلاق الفاضلة، والاتصاف بعلو الهمة والثقة بالله عز وجل والصراحة بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم.
شدة تمسكه بالثوابت الدينية والوطنية
أعطاه الله تعالى من القوة في الجهر بالحق والدفاع عنه بالحجج الدامغة المقنعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء والعارفين بالله تعالى، بحيث لا يستطيع أحد كائنا من كان أن يعارضه أو يناظره في ذلك وإن فعل فإنه يظهر عليه ويفهمه فيسلم ويعترف ويقول هذا هو الحق والصواب:
وكان رحمه الله تعالى آية عجيبة في التمسك بالثوابت الأساسية، والالتزام بها. وعدم السماح بتاتا بالخروج عنها أو التساهل فيها سواء تعلق الأمر بمذهب أهل السنة والجماعة، أو بالعقيدة الأشعرية التي درسها ودرسها في حياته العلمية حتى رسخت في ذهنه رسوخا قويا لا يستطيع أحد أن يشككه فيها، أو تعلق الأمر بالمذهب المالكي الذي درس عليه واختلط بلحمه ودمه، ويذكر أشياء كثيرة وآثارا عديدة في ذلك.
وكذلك إذا تعلق الأمر بالتصوف السني، المنزه عن البدع الضالة والأوهام والخرافات، التصوف المبني على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الجهابذة العارفين الربانيين، والأولياء الصالحين العارفين بالله تعالى ولا سيما فيما يتعلق بطريقتنا الأحمدية التجانية، التي شرب من بحرها الصافي، وكأسها الملأى، شرب منها عَلَلاً بعد نهل حتى ارتوى ونال من الأسرار والفتوحات ومشاهدة الحقائق على ما هي عليه من قدرة في السلوك والرتب الروحية ذلك بسبب إخلاصه، وصدق توجهه، فأصبح علما من أعلامها، ورمزا من رموزها،ومرجعا عظيما في كل ما يتعلق بها تربية وسلوكا وأدبا وأخلاقا وأذواقا، إنه والدي العزيز وقرة عيني وتربيت في حجره، وصنعت على عينيه، وأدركت ما قسم الله لي بسببه وعلى يديه تحت نظره وإشرافه، ورعايته وتوجيهاته، لم أفارقه في حله وترحاله، وعاينت من أوصافه الروحية، وأخلاقه العالية، وإرشاداته الربانية، ما جعلني أقتنع به، وألتزم بمنهاجه وأسير على هديه. سائلا من الله أن يثبتني على ذلك إلى أن ألتحق به، ويجمعنا الله تعالى في دار كرامته وأفضاله، آميــــــن.
أما شدة تمسك والدي رحمه الله تعالى بالثوابت الوطنية والمبادئ الأساسية للملكة الشريفة المغربية، فكان في ذلك لا يجازى وكان حبه للأشراف العلويين ملوك المغرب عموما وبصفة خاصة مولاي سليمان الذي عاشر سيدنا الشيخ رضي الله عنه وتمسك بعهده، وكذلك الملوك الأربعة الذي عاش عصرهم سيدنا الوالد وهم مولاي يوسف وسيدي محمد الخامس ومولاي الحسن الثاني، وملكنا الحالي أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أيده الله ونصره، وكان حبه لهم حبا جما، حبا عذريا – كما يقال- وهو حب منسوب إلى قبيلة بني عذرة من اليمن، كانوا صادقين في الحب والعشق ورقة القلوب، حتى ضرب بهم المثل. (الحب العذري).
وكان والدي رحمه الله تعالى يرى أن حب هؤلاء الأشراف العلويين سيدي محمد السادس وأجداه هو عين محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أحبهم فبحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أبغضهم فبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن جهة أخرى كان والدي رحمه الله تعالى يرى أن الله تعالى ولاَّهم قيادة هذا البلد المبارك الشريف، المشمول بالألطاف الخفية، والعناية الربانية، هذا البلد الذي جعل الله تعالى فيه مقر خاتم الأولياء قطب الأقطاب الغوث الرباني أبي العباس مولانا الشيخ أحمد التجاني، ويقول والدي: قال سيدنا الشيخ التجاني رضي الله عنه عن المغرب والمغاربة: (جيراني بالله ما نجوزهم في الدنيا والآخرة) وهذا منه رضي الله عنه غيرة عظيمة على هذا البلد وأهله وقد شهدنا في حياتنا عدة حوادث بالمغرب صاحبتها الألطاف الخفية من الله تعالى وخرج المغرب وملوكه والحمد لله منها بسلام آمنين، وفضح الله المجرمين، وأذاقهم الخزي والنكال.
والله لقد شاهدت من والدي تعلقا عظيما بهذا الوطن وملوكه وأهله، والإشادة بالمغرب وبما حباه الله، وسمعته مرارا وتكرارا يقول وهو في حالة جد واجتهاد، عن ذوق عال وفناء وعشق ووجد ووجدان يقول: “المغرب أفضل أرض الله بعد الحرمين الشريفين، ويرى ذلك على هذا الترتيب الذي كان يراه الإمام مالك رحمه الله تعالى:
-1 الحرم النبوي الشريف بالمدينة لوجود سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الذي جعله رحمة للعالمين وسيد الخلق أجمعين،
2- الحرم المكي الشريف بوجود بيت الله تعالى العتيق فيه – الكعبة المشرفة –
3- المغرب بوجود قطب الأقطاب فيه مدد العارفين وصاحب هذه المرتبة لا يختار الله تعالى له إلا أشرف البلاد وقد اختار عز وجل لذلك المغرب، بالإضافة إلى خصائص عديدة للمغرب كان يذكرها والدي لا يتسع المقام لذكرها، وكان والدي رحمه الله تعالى يعظم حرمة الأولياء أجمعين، ويحض على محبتهم واحترامهم، باعتبار أن الله تعالى جعلهم أمنا للبلاد، والعباد، وطهر ساحتهم حسا ومعنى، وتوعد وعدا شديدا من عاداهم وأبغضهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالمقابل فإنه تعالى محب من أحبهم وولاهم الله تعالى لا لغرض قياما بواجب الشهادة لله. وتلبية لرغبة عدد من الأجلة الفضلاء من الخاصة وعلى رأسهم سيدنا الخليفة العام عن جده، مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه وأرضاه وعنا به، لسان الطريقة ومعدن أسرار الحقيقة العارف بربه تعالى، والداعي إلى الله تعالى بلسان الحال والمقال: سيدنا محمد الكبير بن سيدنا أحمد بن سيدنا محمد الكبير التجاني شيخ الطريقة التجاني حاليا، والمخاطب الحالي في حضرتها العرفانية.
طلبوا مني أن أكتب نبذة مختصرة عن والدي تتعلق بحياته وأحواله ومركزه الروحي في هذه الطريقة الأحمدية التجانية، فوقعت في حيرة ودهشة، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأنى لمثلي أن يكتب عن مثل والدي رحمه الله تعالى؟
إن الأمر صعب جدا، ومخالفة أمر الخليفة سيدي محمد الكبير وبعض المقدمين العلماء والخاصة، أمر أصعب وأشد، وخصوصا أن والدي كان رحمه الله ينهج نهج الشيخ رضي الله عنه في محاربة حب الظهور لأنه يَقْصِمُ الظهور، فكان لا يقبل من أحد بتاتا أن يمدحه أو ينوه به، أو يقوم بشيء من هذا القبيل، وينسب نفسه إلى الضعف ويقول: أنا عبد لله ضعيف، ويذكر أمورا من أنواع العبادات ويقول: هذه للرجال الكبار لا للضعفاء أمثالنا.
الحقيقة أن أدوات الكتابة عن مثل والدي من الفكر واللسان والقلم تصاب بالعجز والعي عندما تريد اقتحام هذا الميدان الصعب، الذي يعز على مثلي أن يرد مورده العذب، إلا بنفحة وعناية وتوفيق من ربنا الوهاب، فأرجو منه عز وجل التوفيق للصواب، مستعينا به في تحقيق هذا الطلب، استجابة لرغبة سادتنا الأحباب جعلني الله تعالى عند حسن ظنهم، ومتعني بنظرتهم وصالح دعواتهم، إنه سميع مجيب.
فأقول: إنني أشهد على حسبي علمي بوالدي واطلاعي على أحواله بأنه كان متحققا بقول الله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم)
وبقوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) الآية.
وبقوله عز وجل: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)
لقد دعا إلى الله تعالى بصدق وإخلاص فأحبته القلوب وتأثرت بدعوته فاستقامت على ذكر الله وطاعته، وتمسكت العهد الأحمدي والورد المحمدي، في الحواضر والبوادي، منهم المحبون ، والفقراء الصادقون، عرفناهم ومنذ صغرنا في تطوان وطنجة وسبة والفنيدق وناحية العرائش والقصر الكبير والرباط ومكناس ومراكش وجهات عدة لهذه المدن، طبقت شهرته جميعها، وكان معروفا عند الجميع بجده واجتهاده وإخلاصه وسعة اطلاعه على بساط الشريعة والطريقة، وكان متمكنا ومتضلعا من فقه الطريقة وعلومها وأسرارها ورجالاتها وكتبها المشهورة، يحفظ عن ظهر قلب كثيرا من نصوصها ومتونها كالمنية والدرة اليتيمة وشرحيهما، البغية والخريدة والجواهر والرماح وغيرها.
اشتغل طويلا بمهنة الخطابة في عدة مساجد من البادية والإمامة وتعليم القرآن الكريم عن طريق ما يعرف “بالشرط في المساجد”.
درس العلم على يد عدة شيوخ في المدارس العتيقة ببني يدر، وودراس، والحوز، وتطوان وزار فاس وأخذ عن عدة من شيوخها وعلمائها وعلى رأسهم العلامة الكبير المقدم الشهير سيدي الحاج إدريس العراقي والبركة الجهبذ الفاضل العلامة سيدي محمد أقصى وغيرهم ودرس العلم مع الطلبة في بني يدر بمدشرنا وفي قبيلة ودراس.
وكان رحمه الله آية في الحفظ والذكاء الخارق والاستحضار، وكان منفتحا على العالم الخارجي يستطلع الأخبار عن طريق الصحف والمجلات والمذياع وله معرفة تامة بجغرافية البلدان ومواقع دولها وتاريخ الفتوحات الإسلامية، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وكان مولعا بقراءة الأمداح النبوية بنغم عذب يهز المشاعر، وينفذ لأعماق القلوب والوجدان، يحفظ قصيدتي الهمزية والبردة عن ظهر قلب، وقصائد عدة في المديح النبوي، خصوصا قصائد المولد النبوي. تعلمنا منه رحمه الله الكثير منها وقراءتها بصيغ ونغمات وأوزان متعددة مطربة محركة للقلوب نحو محبة رسول الله صلى الله عليه و سلم. وكان مولعا ومعنيا عناية لائقة بقراءة مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم، والاحتفال بمولده الشريف يقيم كل سنة بالمناسبة احتفالا رائعا بجمع الفقراء والأحباب وأفراد الأسرة ويبالغ في إكرامهم، ويقرأ عليهم كتب السيرة النبوية والشمائل المحمدية، ويحث الناس على ذلك، و يقول لهم ما قاله الرسول صلى الله عليه و سلم لذلك الرجل الذي رآه صلى الله عليه و سلم في المنام، وسأله عما يقول الناس في عمل المولد فقال له:”من فرح بنا فرحا به” صلى الله عليه وسلم. و كان والدي رحمه الله تعالى آية خارقة في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووحبة ذريته وآل بيته ويرى أن لا إيمان بدون ذلك، كما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، كما يعتني بهم وبمصالحهم عناية كبيرة ويبذل ما تصل إليه قدرته في ذلك، وأذكر مثالا واحدا في ذلك و هو: أنه رحمة تعالى كان دائما على استعداد تام للسفر للدار الآخرة، ومنذ مدة تزيد على نحو عشر سنين دفع إلي ألفي درهم وعهد إلى أن قضى الله بوفاته أن أوزعها على آل بيت النبي صلى الله عليه و سلم، وأنا والحمد لله أقوم بذلك أسأل الله مزيدا من التوفيق.
أما فيما يتعلق بالجد والاجتهاد في عبادة الله وطاعته. فقد كان المثل الأعلى في ذلك يحافظ على صلواته النفلية والفرضية ويؤديها في الجماعة إن أمكن بخشوع وخضوع وحضور قلب وإتمام ركوع و سجود. وكذلك في أذكاره وأوراده. قد تحقق بمقام الإحسان الذي قال عنه النبي صلى الله عليه و سلم: ” إن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” عرفنا بذلك منذ صغرنا، إذا رأيته يصلي أو يذكر الله عز وجل، أو يتذاكر في موضوع أو يتلوا قرءانا انجذب قلبك إليه، وأقبلت روحك إليه وتجلت لك أنوار الهداية والقبول لديه و “أفضلكم الذين إذا رؤوا الله لرؤيتهم”.
سافرت معه كثيرا إلى أماكن عدة، إلى العمرة في رمضان في سنتي 1994-1995 ميلادية عبر تونس و التقينا في كلتا العمرتين بعدد كبير من الشخصيات والفقراء والمقدمين في كل من الحرمين الشريفين ومن خلال مذاكرتهم معه إلتفوا حوله وأثنوا عليه وأحبوه بكل قلوبهم. وفي ليلة القدر بالحرم المكي صلينا العشاء والتراويح بالطابق العلوي وبعد الختام أردنا النزول على الدرج. وكان الازدحام شديدا وأنا ماسك بيده من الجهة اليمنى ورفيق لنا رحمه الله من الجهة اليسرى وخفنا عليه في الدرج، فإذا بمجموعة من الشباب المصري أسرعوا إلينا وحفوا بوالدي ورفعوا وبعضهم يفتح الطريق في منظر عجيب حتى أوصلونا إلى الأرض و قبلوا رأسه و سألوه الدعاء، فسبحان مصرف القلوب لما يشاء.
وسافرت معه إلى فاس مرات ومرات، أولاها سنة 1387هـ موافق 1967م بعدما تأهلت وأذن لي في الطريق وقال لي: فهذا تمام إذني لك أن تذهب معي إلى المقدم سيدي الحاج إدريس العراقي بفاس ليأذن لك ويجيزك، فلما التقى بالعلامة سيدي إدريس العراقي بضريح سيدنا قدمني له وطلب منه ما أراد. فواعدنا سيدي ادريس بالحضور معه في داره من الغد لحضور مأدبة الفطور وأجلسني بين يديه وأذن لي على وفق مراد والدي رحمه الله تعالى بحضور عدد من الأفاضل من أصحاب الشيخ رضي اله عنه وزودنا نصائح غالية. وفي شهر شعبان من سنة 1407هـ 1987م سافرت مع والدي و جماعة من الإخوان إلى مراكش ونزلنا أولا بضريح سيدنا المرابح الولي الصالح سيدي العربي بن السائح بالرباط وكانت لنا جلسات ولقاءات مع مقدمين أجلاء وعلماء وعلى رأسهم العلامة سيدي مصطفى العلوي نزيل المدينة المنورة على سكانها فضل الصلاة والسلام كلهم تذاكروا مع والدي وأبدوا له من المحبة والتقدير ما يعلم به الله تعالى العلي القدير جزاهم الله خيرا.
ثم واصلنا السير إلى مراكش ونزلنا بالزاوية النظيفية والتقينا بالمقدم البركة العارف بالله تعالى الخليفة عن والده، سيدي أحماد النظيفي وأحسن ضيافتنا بداره ثم دارت بينه وبين والدي مذاكرة في أمور تتعلق بالطريقة وخواصها وطلب منا أن نلتحق به صباح الغد إلى الدار التي بمنطقة أوريكة وجمعنا الله تعالى به في هذه الدار المباركة وانبسط سيدي أحماد النظيفي مع والدي انبساطا عظيما وفرح بنا وأبدى لنا من الفوائد والأسرار ما أفاض به علينا أنسا وسرورا وبهجة وحبورا فأحسسنا براحة عظيمة وتذاكر معه والدي مذاكرة خاصة بينهما أثمرت أن أجازني سيدي ومولاي أحماد النظيفي هذا إجازة مباركة طبق ما أجازه به والده العلامة سيدي الحاج مَحمد النظيفي وطبق ما كان يتمناه والدي رحمه الله تعالى.
و كتب هذه الإجازة نيابة عن سيدي أحماد النظيفي صهره العلامة النحرير الشاعر الأديب المقدم سيدي محمد بن المعطي المحمودي رحمه الله تعالى وفي طريق عودتنا نزلنا بزاوية شيخنا بمدينة اخنيفرة ثم إلى فاس وزرنا ضريح سيدنا الشيخ رضي الله عنه واجتمعنا بعدد من الأفاضل مقدمين وفقراء.
و في أواخر سنة 1411هـ 1991م قدر الله تعالى أن يلتقي والدي ونحن معه بالعارف بربه الأديب الشاعر سيدي إدريس بن حسن العلمي بدار صهرنا الفاضل المحترم سيدي أحمد العوامي الفيلالي في مناسبة خاصة وكنا نسمع بهذا السيد ونقرأ له قصائد رنانة من شعره في دفاعه عن الطريقة ولا نعرف شخصه وفي هذا اللقاء تعرفنا عليه ودارت جولات من المذاكرة والدروس في هذا اللقاء في جمع كبير من الإخوان. تمت مذاكرات متعددة بينه وبين والدي في الطريقة وعلومها وأسرارها، فأشفى غليله بما سمع وشاهد من والدي وأحبه محبة عظيمة، وضرب لنا موعدا للحضور معه بداره التي كان بها بطنجة وقتئذ، فلبى والدي الدعوة وأكرمنا هذا السيد غاية الإكرام ثم تطرق موضوع المذاكرة حول علوم الطريقة وسمع والدي ما أثلج صدره وأقر عينه فازداد حبه له وتعلقه به، كما عبر عن ذلك في رسالته وقصيدته التي أنشدها في مدحه، وكنا قد عرضنا عليه أن يشرفنا بالحضور معنا بدارنا بناحية القصر الصغير فلبى الدعوة لما له من الرغبة الكبيرة في الجلوس مع والدي والاستماع إليه، وسلمنا الرسالة والقصيدة ونسخة من المولد النبوي لسيدي إبراهيم الرياحي وكانت لقاءات مباركة وجلسات مفيدة لا تُنسى أبدا.
غير أن والدي رحمه الله تعالى أخذ علي العهد أن لا أُطلع أحدا على تلك القصيدة المباركة طيلة مدة حياته لأنه لا يحب الظهور كما سبق واليوم بعد انتقاله لجوار ربه. واستجابة مني لطلب سيدنا الخليفة سيدي محمد الكبير رضي الله عنه بذكر نبذة عن حياة والدي ها أنا أذكرها، وفاء بأداء الأمانة، وخوفا من كتمان العلم، وما فيم من الوعيد، نعوذ بالله من الكتمان، ونسأله العصمة من الشيطان الرجيم.
ومطلع الرسالة هو بل نصها الكامل:
بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله طنجة في 6 محرم الحرام عام 1412 هـ موافق 18 يوليوز سنة 1991 م إلى السيد الفقيه الجليل. وفضيلة المقدم النبيل، وأخي الشقيق في الطريقة والحقيقة سيدي الطاهر التجاني مقدم الزاوية التجانية بتطوان لطف الله به ورعاه، وزاد في مدده ومعناه آمين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وبعد، يشرفني ويسرني أن أبعث إليكم في طي هذا الكتاب.صورة واضحة للمولد الذي حرره شيخ الإسلام الحبر العلامة والبحر الفهامة سيدي ومولاي إبراهيم الرياحي التجاني رضي الله عنه وأرضاه وجعل في أعلى عليين مثواه آمين.
ومعها تجدون قصيدة جاشت بها القريحة في مدحكم، وأرجو من كرمكم القبول، والتجاوز عما فيها من قول معلول، وما قد يكون فيها من تطاول على مقامكم العالي بالله، أو من سوء أدب غير مقصود وأن تقبلوا أخاكم على علاته، و أن تتغاضوا عما لا يليق من أحواله، فقد تركت زيارتكم في نفسي أثراحميدا بليغا جعلني أزداد حسرا على أني لم أسعد بلقائكم حتى انتزع المرض مني جل قواي، فلم أعد أقوى على السفر ولا السهر، إلا ما قصر منه ونذر، فأسأل الله الكريم أن يجعل لي في لقائكم القصير بركة، تجعله يعدل بلقاءات السنين الطويلة، إذا أمسيت لا أنتظر الصباح، وإذا أصبحت لا انتظر المساء.
فهنيئا لمن عرفكم وأحبكم وخدمكم طوال العديد من السنين، فأرجو من فضلكم أن لا تحرموني من رؤيتكم كلما قدمتم إلى طنجة مهما كان وأينما كان مقامكم فيها، ولو مدة دقيقة واحدة أسعد فيها برؤية محياكم الحبيب، وتقبيل يدكم الكريمة.
دمتم بخير وفي رعاية الله، وبلغوا سلامي إلا ولدكم الفقيه الجليل العلامة الأصيل سيدي أحمد أقر الله به عينكم، وجاد عليه بما تتمنونه له. وبما يتمناه لنسفه من خيرات الدنيا والآخرة بحرمة قطب الأقطاب والختم والكتم، تاج العارفين، وسند الأولياء والصالحين شيخنا أبي العباس سيدنا ومولانا أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه، ورضي عنا به، وجعلنا من خاصة خاصة أصحابه، بجاه النبي الأمين خاتم النبيئين والمرسلين، وسيد العالمين سيدنا وشفيعنا وحبيبنا محمد بن عبد الله القائم بأمر الله، الرسول الكريم عليه أزكى الصلاة وأزكى التسليم آمين يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.
أخوكم الشقيق خديمكم وخديم الأعتاب التجانية
إدريس بن الحسن العلمي
تم توقيعه رحمه الله اهـ رسالة هذا السيد الجليل أثبتها بحذافيرها أداء للأمانة.
وبعدها أثبت نص القصيدة بخط يده رحمه الله تعالى وهي بعنوان:
نفحـــــــة
قصيدة بعنوان نفحة للشاعر سيدي إدريس بن الحسن العلمي
في مدح المقدم البركة الفقيه الجليل سيدي الطاهر بنحمو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى