مقالات

اعتراف الإســلام بالديانات السماوية السابقة إبراهيم صالح الحسيني

 

اعتراف الإســلام بالديانات السماوية السابقةعنصر أساسي في عقيدة

المسلم

الشيخ إبراهيم صالح الحسيني

 التجاني

اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق

والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق

والهادي إلى صراطك المستقيم

وعلى آله حق قدره ومقداره

العظيم

 

 

بسم الله الرحمن الرحيــــــــم

مقـدمــــــــــــــة:

الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وسيد الأولين والآخرين سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقائدنا محمد النبى الأمى الأمين الذى فتح الله به أبواب الهدايات وختم به النبوة والرسالات وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه السادة المجاهدين .

أما بعد :

يقول الله تبارك وتعالى فى محكم تنزيله (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) البقرة : 284.

ويقول فى آية أخرى : ( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل , ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيد ) النساء : 135 .

وقد جاء فى الحديث الشريف : ” الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره … الحديث رواه البخارى ومسلم عن عمر بن الخطاب وأبى هريرة .

إن هذا العمل العظيم الذى دأب المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بجمهورية مصر العربية على القيام به كل عام تحت رعاية السيد الرئيس محمد حسنى مبارك رئيس جمهورية مصر العربية لمن دواعى فخر واعتزاز مصر الأزهر وحكومتها وشعبها العظيم كما يسعد به المسلمون فى كل مكان وقد تقرر عقد هذا المؤتمر هذا العام تحت عنوان حقيقة الإسلام فى عالم متغير فى الفترة من 20 : 23 / 5 / 2002 م .

وبمشاركة جميع من تضمه أرض مصر العزيزة أرض الكنانة من العلماء والمفكرين , كما تشارك فيه مؤسسات علمية ودينية عريقة فى داخل البلاد وخارجها وهو مؤتمر دأب القائمون عليه على جمع نخبة طيبة من أكابر علماء الإسلام فى هذا العصر للنظر فى شئون المسلمين وحل قضاياهم.

إنه لأمر يستوجب التقدير والاهتمام , خاصة الظرف الذي ينعقد فيه المؤتمر هذا العام ونحن إذ نستجيب لهذه الدعوة الكريمة نكرر شكرنا لله تبارك وتعالى على نعمة الإسلام , كما نشكر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى مصر على دعوته الكريمة لنا ولما لقيناه فى هذا البلد المضياف من حفاوة وتكريم .

إن الظروف العصيبة , والمتغيرات الجارفة التى تمر بها أمتنا وتمر بها الإنسانية جمعاء فى الوقت الراهن متمثلة فى الظلم البين والاعتداء الصارخ للإسلام والمسلمين خاصة بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر من العام المنصرم تقتضى من حكماء وعلماء هذه الأمة أن يضاعفوا الجهود من أجل إبراز سماحة الإسلام وعدالته وشموليته التى تسع الزمان والمكان وتوفر للعالم كله السلام والاستقرار والمتضمنة لكافة الحلول التى من شأنها أن تخرج العالم من الهوة السحيقة التى أشرف على الانحدار إلى قاعها ومن المعلوم أن الإسلام العالمى لا يمكن أن يتحقق أبداً مادام هذا الظلم للإسلام باقياً ومستمراً على ما هو عليه .

ومن هنا فإننا نقدر هذه الجهود المباركة الت بذلت من أجل إنجاح هذا المؤتمر كما ننتهز الفرصة لنسجل شكرنا الجزيل لمعالى وزير الأوقاف ورئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الدكتور / محمود حمدى زقزوق ورفاقه على إتاحتهم الفرصة لإخوانهم من المسلمين فى نيجيريا للمشاركة فى أعمال هذا المؤتمر العظيم عن طريق هذه الورقة التى أقدمها تحت عنوان ” اعتراف الإسلام بالديانات السماوية السابقة ” وهذا الاعتراف يعد عنصراً أساسياً فى عقيدة المسلم .هذا كما أرجو أن تتناول الورقة باختصار رؤوس الموضوعات الآتية :الإسلام دين الفطرة ؛ الإسلام والديانات الأخرى ؛ الإسلام وأزمة السلام العالمى .فأقول وبالله التوفيق .

الإسلام دين الفطرة

إن الإنسان كائن طموح محدود القدرات عظيم التطلعات , ولعلمه بمحدوديته التى تعارض تطلعاته نجده دائماً يهرب من النهاية ويتهرب من هذا الواقع المحتوم ليعيش آماله ولو فى عالم الخيال ويسعى طول حياته فى سبيل تحقيق الخلود .

هذا – والذى يجعل من هذا الكائن الطموح كائناً دائم الوجود ودائم البقاء ويضمن له طاقات أوسع لتحقيق طموحاته الكبار فى هذا العالم الفانى ويصل وجوده بذلك العالم الباقى – هو الله تبارك وتعالى .

وقد يضطر الإنسان فى أكثر الحالات للبحث عن قوة عليا تكبر محدوديته وتتسامى عنها , يلجأ إليها ليعوض عن إحساسه بالعجز عن تحقيق الأمان والاستقرار الذى يلازم تفكيره , وقد يكون بحثه عن هذه السعادة بعقله وقد يكون فى أكثر الأحيان بعاطفته إلا أن الطريق الصحيح لذلك ولتحصيل السعادة والكمال واجتياز المحدودية اليائسة إلى عالم البقاء واللانهاية هو الالتزام بالدين الذى هو هداية الله للإنسان وعنايته به , فالدين الإسلامى , وهو كلمة الله الأخيرة والخالدة يهدف إلى خلق إنسان صالح رشيد منسجم مع سنن الاستقامة والمنهج الإلهى الذى خطه الله لعباده فى أرضه بواسطة النبوات والرسالات التى أبتعث بها أنبياءه ورسله , عليهم الصلاة والسلام الذين ختموا بسيدنا محمد  eالذي جاء ليكمل نقص الإنسان ويتمم مكارم أخلاقه ، ويملأ بدينه الحق وقيمه فراغ الروح والعقل فيه ويبني أسس الأمن والسلام والاستقرار

ومن هنا كان الإسلام دين الفطرة بقدر ما هو دين السلام وأن هدي الله الذي وعد به آدم وأبناءه ويتمثل في القرآن الذي جمع كل ما تفرق في جميع الكتب السماوية المنزلة علي جميع الأنبياء والرسل الذين جاءوا من عند الله مؤيدين بالآيات البينات والمعجزات الخارقة للعادات ، وهذا القرآن هو معجزة نبينا محمد e   العظمي ، وذلك لكون رسالة الرسول الخاتم eعامة لكافة الأمم والشعوب ودائمة إلي  قيام الساعة وشاملة لكل زمان ومكان كما أنها صالحة لمسايرة جميع العصور ومتضمنة لحل جميع تحديات التطور المتمثلة في المستجدات التي تتغير بتغير الأحوال والأزمان ، يقول الله تبارك وتعالي في محكم تنزيله ( إن الدين عند الله الإسلام ) آل عمران : 19 ، ويقول في آية أخري  (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) آل عمران : 85 ، وفي الحديث ” كل مولود يولد علي الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه  الحديث ” رواه أبو داود وغيره .

اعتراف الإسلام بالديانات :

اعترف الإسلام مع وضوح دعوته ودقتها وكونه هو الإرادة الأخيرة –   بجميع الأديان السابقة وقرر في هذا الموضوع ما لم يسبقه اليه دين آخر   قال تعالي : (أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) البقرة : 284 .وقال تعالى : (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له ومسلمون  ) البقرة : 136 .وقال تعالى : (يا أيها الذين ءامنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً   ) النساء : 136 .

إن الإسلام وهو دين الفطرة قد تضمن جميع ما تقدمه من الرسالات  إذ أنه الرسالة الخاتمة قد قرر وبكل وضوح أن إيمان المسلم لا يتم إلا بإيمانه بتلك الأديان كما أن إيمانه بسيدنا محمد e   لا يعتبر كاملاً ولا مقبولاً إلا إذا شمل جميع الأنبياء والرسل وما أنزل الله عليه من كتب سماوية كما يظهر من سياق تلك الآيات المتقدمة ومع وضوح عقيدة الإسلام وتسامحه مع الديانات السابقة إلا أن أنصار تلك الديانات حتى غير الملتزمين بتعاليمها لا يترددون فى كراهيتهم للإسلام والمسلمين واعتدائهم عليه وإعلان الحروب المتكررة عليه دون ما سبب يوجب ذلك .

ولما رأى العقلاء من المسلمين ذلك دعوا هؤلاء الناس إلى الحوار وبعد تردد وإحجام قبل الجميع مبدأ الحوار وقد كان الإسلام يدعوا إلى الحوار مع أهل الكتاب منذ قيامه فى عهده الأول كما هو معلوم فى القرآن الكريم وفى السيرة النبوية الشريفة وفى سبيل تحقيق وتأكيد سماحة الإسلام , وضع الإسلام أسساً وقواعد عديدة لحسن التعامل مع أهل الديانات السماوية الأخرى فقال تعالى فى حق أهل الكتاب : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون  ) العنكبوت : 46 ,وقال فى آية أخرى : (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وأبن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ) النساء : 36 .

والجار الجنب قد فسر بما يشمل الجار غير المسلم وسواء جار فى المسكن أو فى الوطن , فإن حقوقه يجب أن تصان , وزيادة على ذلك يجب أن يعامل باللطف والرفق والإحسان فى جميع الأمور .

والإحسان إلى الآخرين فى مفهوم الإسلام لا يقتصر على إسداء المعروف وإنما يتناول هذا مع غيره من الحقوق كاحترام حق الآخرين فى الرأى والاعتقاد والفكر مما يجعل التعايش والتساكن ممكناً بين جميع أبناء البشر فى إطار الأسس والمقومات التى أقرها الدين والتى ترعى مصالح الناس جميعاً على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم ومعتقداتهم والجار سواء كان مسلماً او ذمياً فإن الإسلام صان حقوقه فى الحياة والبقاء والتملك , ففى حق المسلم جاء الحديث : كل المسلم على المسلم حرام, ماله وعرضه ودمه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم .

وفى حق أهل العهد من غير المسلمين قال عليه الصلاة والسلام ” من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ” وفى حديث آخر قال : ” من قتل مجاهداً فى غير كهنه حرم الله عليه الجنة ” .

إذاً فالتسامح الذى يتمثل فى احترام حق الآخر فى كممارسة حقوقه الإنسانية من حرية فى العقيدة أو حرية فى الرأى أو التعبير أو توفير حق الحماية له فى العيش بسلام حالة الاختلاف حتى فى هذه الأمور الجوهرية , والتعايش بين المسلمين وغير المسلمين ليس من القضايا الاجتهادية أو الافتراضية فى الإسلام بل جاء فيه النص القاطع فى المعاملات فليقرأ من شاء قوله تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين , إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون  ) الممتحنة : 8 – 9  وفى الاعتقاد أقرأ قول الله تعالى :(لا لإكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي ) البقرة : 256 .

 

 

 

الإسلام والحوار الهادف

لقد وضع الإسلام وسيلة هى أرقى وسائل إحقاق الحق على مر العصور وهى استخدام العقل الواعى والحكم بمقتضى منطق الحكمة فى كل القضايا المتعلقة بالدين والدنيا وما يرجع إليهما وهذا الحوار هو أساس الدعوة إلى إحقاق الحق وإزالة كل خلاف ينشأ بين الإنسان وغيره , يقول الحق تعالى : (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى حى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين  ) النحل : 125وقال الحق تعالى لموسى وهارون (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى  ) طه : 42 – 43  .فكان الحوار فى الدعوة وغيرها محكوم بهذه الضوابط المحكمة والممهدة لإنجاح الحوار والجدل بحيث يكون هادفاً إلى إحقاق الحق محافظة على أصل السلام والأمن والاستقرار فى المجتمع وليس لانتصار أحد الفريقين على الآخر وهو فى الحقيقة تعاون على البحث عن الحق أو الحقيقة لشدة الحاجة إلى ذلك فوضع الإسلام هذه الضوابط:

أولاً : يجب أن يكون هناك اعتراف ضمنى من طرفى الحوار بوجهة النظر الأخرى أو أن يعترف كل طرف بحق الديانة الأخرى فى الوجود حتى يوجد بذلك المناخ الصالح للحوار والبحث .

ثانياً : أن يكون القول فى ذلك محكماً أى مقروناً بالدليل البين فى نفسه الموضح للحق المزيل للشبهات وهذه هى الحكمة فى الدعوة وبخاصة فى حق من استنارت عقولهم بعلوم الديانات السابقة أو الثقافات والفلسفات الإنسانية المختلفة .

ثالثاً : أن يكون الوعظ أو أسلوب الحوار ليناً موقظاً للشعور مَكْسُواً بالرفق بحيث يرجى معه إذعان المخاطبين أو الطرف الآخر واقتناعهم بصدق المدعى وقد أستعمل القرآن حتى أسلوب العرض فى الدعوة , فقال تعالى لموسى : (أذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى  ) النازعات : 17 – 19 .

رابعاً : يرى الإسلام انه يجب أن يكون الحوار والمناظرة عند عرض وجهات النظر المختلفة بالطريقة المثلى وذلك بالصبر والدفع بالتى هى أحسن وعدم مقابلة الإساءة بالإساءة ولا الغلظة بالغلظة وإنما يكون شأن الداعية تابعاً لما أمر الله تبارك وتعالى به سيد الدعاة سيدنا محمدe حيث قال له : (خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين , وإما ينزغك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم )الأعراف : 199 – 200 .

وفى الحوار مع أهل الكتاب ومن ألحق بهم ممن لهم شبهة كتاب يقول الحق تعالى : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) العنكبوت 46 فكما تميزت الديانة الإسلامية بالشمولية والعموم فى أصولها تميزت أيضاً بالتسامح والتسامى عن التعصب وضيق الأفق فى نشرها وذلك بالدعوة إلى الاعتراف بالديانات كلها فى أصلها الصحيح مع إنصاف المخاطب بكل وضوح يقول الحق تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم  وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم  ) فصلت  34-  36 .ويقول الله تعالى  :   (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم  ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله فغن تولوا فقولوا أشهدوا بانا مسلمون  ) آل عمران : 64 .

وبفضل هذه الصفات المميزة لمنهج الدعوة والحوار فى الإسلام فى أكثر البلدان على مر العصور , وهذه المرونة والتسامح والترفع عن ظلم جميع الناس والاعتراف بحقهم الأساسى والطبيعى فى حرية الاعتقاد والفكر والسياسة والنشاط والبناء جعلت من هذا الدين العظيم ديناً عالمياً جاء لإنقاذ البشرية جمعاء من ضيق الظلم والتعسف والطغيان السائد فى العالم إلى العدل والاعتدال واحترام الإنسان وتقييمه التقييم الصحيح يقول الحق تعالى : (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) الإسراء : 07. ومن هنا جاء إقرار الإسلام لعدد من الأسس والمبادئ التى تكفل التعايش السلمى بين المسلمين وغير المسلمين ولا عبرة إلا بالتقوى :

أولاً – أقر الإسلام  مبدأ التعايش والتساكن بين سائر الأمم والشعوب واحترام كل القيم الأساسية للإنسان بغض النظر عن فوارق الأصل والعرق والدين والمعتقد أو القطر أو الإقليم قال تعالى : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) الحجرات : 13 .ويقول الحق : (إن الذين آمنوا والذين هادوا الصائبين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد  ) الحج : 17 .ويقول : (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون  )البقرة : 61

ثانياً – يعترف الإسلام بحق جميع الشعوب فى تمسكها بمصالحها وقيمها القومية والوطنية والدفاع عنها وعن مكاسبها وثرواتها الطبيعية وتراثها الثقافى وتقاليدها الاجتماعية وقيمها الروحية فيقول الحق تبارك وتعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا  ) المائدة : 48

ثالثاً – أقر الإسلام مع مبدأ التعايش والتساكن مبدأ حسن الجوار بل والتعاون بين جميع الناس من أتباع الديانات السماوية ( الإسلام والنصرانية واليهودية ) باستثناء سكنى الجزيرة العربية وذلك لأسباب وظروف خاصة أوجبت اتخاذ هذا القرار الحكيم فى تلك الأيام الحرجة .

رابعاً – أقر الإسلام وحدة الهداية بين جميع الرسالات حيث قال تبارك وتعالى :وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم , ووهبنا  له اسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وعيسى وإلياس كل من الصالحين , وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلا فضلنا على العالمين , ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم , ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون , أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين , أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين  ) الأنعام : الأيات 83 – 90.

خامساً – أقر الإسلام أصل العلاقة الزوجية والمصاهرة بين المسلم وأهل الكتاب وأباح للمسلم طعامهم والانتفاع بأوانيهم وصناعاتهم وما يجلب إلينا من بلادهم من المأكولات والملبوسات حتى مع الجهل بالمواد التى صنعت منها ما لم يثبت المنع بدليل قاطع .

سادساً – كفل الإسلام حرية الاعتقاد والفكر وممارسة الطقوس والعبادات لمن لديهم كتاب أو شبهة كتاب بل وتكفل بحمايتهم وحماية مقدساتهم وممتلكاتهم وأماكن عباداتهم ولا يخلوا كتاب من كتب الفقه الإسلامى من نصوص تتعلق بأحكام أهل الذمة والعهد وهكذا جميع الأقليات فى المجتمع الإسلامى , ولقد أدان الإسلام جميع أنواع الظلم والعدوان الذى كان تمارسه أمة ضد أمة أو شعب ضد شعب ولا فرق فى الإسلام بين أن يكون العدوان والاضطهاد بالقوة العسكرية أو عن طريق سياسة الهيمنة والكبت التى تماسها وتباشرها الأمم القوية ضد الدول الإسلامية إما تحت شعار الحرب ضد الإرهاب الدولى الذى ترفع رايته أمريكا ورئيسها بوش وإما تحت شعار النظام العالمى الجديد والعولمة وفى مثل هذه الأحوال لا يتردد الإسلام فى إعطاء الدول المستضعفة الحق فى التمسك بحقوقها وتراثها والدفاع عن مصالحها وقومياتها وثرواتها وقيمها الروحية وكرامتها الإنسانية إذا تعرضت للتهديد .

سابعاً – إن الإسلام مع إعطائه حق الدفاع للأمم والشعوب ضد العابثين بحقوق الناس أو ضد الذين يحاولون سلب الحريات الطبيعية وفرض الهيمنة والسيطرة عسكرياً وسياسياً فإنه يرفض جميع أنواع الإرهاب ويسميه فساداً ومحاربة لله ولرسوله فيقول الله تعالى : (وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) البقرة : 205 .ويقول : (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم ) المائدة : 35.

ثامناً – إن الدفاع الذى يشرعه الإسلام ويقره هو الدفاع بالوسائل المشروعة التى تحصر الرد والردع فى مقاومة المعتدى الظالم ولا يبيح الاعتداء على الأبرياء أو اخذ البرئ بذنب غيره أو القريب بذنب غيره أو القريب بذنب قريبه المجرم أو التخبط العشوائى بالأعمال العشوائية لإضرار بمصالح الغير مما يهدد الأمن والاستقرار فى المجتمع الآمن ولا كذلك يبيح الإسلام معاقبة قبيلة بكاملها بذنب فرد أو جماعة منها كما لا يبيح تعذيب أمة بذنب يرتكبه قادتها أو أكابر مجرميها كما يجرى الآن من الحصار المفروض على عدد من بلدان المسلمين وكما يجرى دون روادع فى الأراضى الفلسطينية من قبل الإسرائيليين اليهود فى ظل سيطرة القطب الواحد على العالم وفى ظل النظام العالمى الجديد أو فى إطار الحرب ضد الإرهاب التى أوقد نيرانها الرئيس الأمريكى بوش وهو الذى تفنن فى ابتداع أساليب التعذيب والتنكيل الجماعى بما لا تقره القوانين الدولية ولا الأعراف التى تواطأت عليها الأمم والشعوب , فما يجرى اليوم فى فلسطين المحتلة بعد هذا الاجتياح الغادر الظالم الذى دمرت فيه البنية التحتية للسلطة الوطنية الفلسطينية وقتل فيه النساء والأطفال والعجزة من الشيوخ والمرضى وأحرق اليهود فيه الأخضر واليابس وهدمت فيه المنازل على رؤوس أصحابها بطريقة بربرية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً وبمباركة من الإدارة الأمريكية ومن الرئيس بوش شخصياً وكذلك ما يجرى فى أفغانستان دون تمييز بين الجانى وغيره مما يوحى للمشاهد بأن الهدف الحقيقى لهذه الحروف كلها هو محاربة الإسلام والعرب ومهما قيل سوى هذا فإنه كذب بشع وخداع خبيث مكشوف لا يصدقه أحد من الناس حتى الأطفال ومما يشهد لما نقول تلك التصريحات التى يدلى بها الرئيس الأمريكى ومن أسواها وصفه للسفاح القاتل الآثم شارون بأنه رجل سلام وتحريضه للإسرائيليين البرابرة أن يزيدوا من بطشهم وتنكيلهم بالأبرياء فى ظل الحماية الأمريكية ؛ وهذا الذى يجرى فى الأراضى المحتلة وما يجرى فى أفغانستان بهذه الصورة وما تحاول أمريكا وبريطانية تنفيذه ضد العراق وإيران وسوريا وليبيا ولبنان وما تدندن حوله من تعمد دمج المنظمات الوطنية التى تناضل من أجل تحرير أراضيها من إحتلال العدو كحماس والجهاد الفلسطينى وحزب الله اللبنانى كل ذلك يدل دلالة واضحة بأن المخطط ضد الإسلام والعرب والشعوب الإسلامية أكبر بكثير مما يظن الناس والله حسبنا ونعم الوكيل .

تاسعاً – الإسلام بما أنه دين يقدس نظام العدل والإحسان والتسامح ويحترم حقوق الجيران والآخرين على وجه العموم ويحترم كذلك مشاعر أصحاب الديانات الأخرى يلتزم فى كل شئونه الوسطية الراقية ويرفض التطرف والتعصب الطائفى بكل أشكاله ويرى أن التطرف والعنف ظاهرة سياسية اجتماعية لا علاقة لها به , فهى تناقض الإسلام وتفرغه من مضمونه الأساسى أعنى السلام والسماحة والاعتدال والإنصاف والوسطية , وهو دين يتسع لأصول جميع الديانات ويقدم دائماً استعمال العقل والفكر المتوازن ومقابلة الحجة بالحجة ويترك باب الحوار مفتوحاً , والإسلام لا يكون سيفاً على رقاب الآخرين ولا يقبل أن يكون سوطاً يلهب ظهور من يختارون غيره من الديانات وهو الذى يقول : (لست عليهم بمسيطر  ) الغاشية  : 22 ويقول : (لا إكراه فى الدين  ) البقرة  : 255ويقول : (قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل  ) يونس : 108 .ويقول : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) يونس : 99 – 100 .

عاشراً – الإسلام أوجد بنظامه السماوى التوازن الثابت بين كافة أفراد بعضهم ببعض وفى علاقتهم بالسلطة الحاكمة بحيث يحترم الفرد المواطن شرعية السلطة ويقف إلى جانبها فيما يساعد على إقامة الأحكام الشرعية ويدعو الإسلام السلطة أياً كانت وكيفما كانت إلى المحافظة على حقوق المواطنين المدنية واحترام مشاعرهم الدينية وكرامتهم الإنسانية حتى ولو كانت السلطة علمانية أو يكون لها معتقداً يخالف معتقدات الأمة فلا يجوز للسلطة أن تجعل من المواطن عرضاً للسخرية والإهانة فيسود حينئذ الانسجام بين المواطنين والسلطة الحاكمة وتتقوى بذلك الرابطة القائمة على أساس من التكامل والثقة والاحترام بين الحاكم والمحكوم للحديث الوارد فى النصيحة وهو الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم رواه مسلم عن تميم الدارى .

الحادى عشر – إن الإسلام يرفض جميع مظاهر التعصب الدينى أو الحزبى أو السياسى كالذى يجرى فى أكثر البلدان ذات الأقليات الإسلامية إذ تتحدى بعض تلك السلطات فى البلدان ذات الأغلبية غير المسلمة المواطنين المسلمين وتعاملهم معاملة تسئ إلى معتقداتهم أو تجرح شعورهم الدينى وأحياناً يصل الأمر إلى الاستفزاز بالاتجاه المتعمد لحقوقهم المشروعة فى الاحتفاظ بأماكن عبادتهم أو ممتلكاتهم الأثرية وأحياناً يصل الأمر إلى إنكار وجودهم الطبيعى وهذه التصرفات غير المنصفة هى المسئولة عن نشأة ظاهرة الإرهاب فى صوره المروعة المختلفة فى أكثر الأحيان وفى أكثر من مكان .

الثانى عشر – يرى الإسلام أن من الظلم اعتبار الأصولية فى الإسلام تطرفاً أو تعصباً فإن الأصولية هى التمسك بما كان عليه سلف الأمة من الفهم الصحيح للنصوص الدينية والوقوف بها عند حدودها ومنع الانحراف بها يميناً أو شمالاً تفريطاً أو إفراطاً فالإسلام يعترف بالأصولية ويؤكد بملء الفم وبأقوى الأدلة أن التعصب أو التطرف أو الإرهاب ظواهر سياسية اجتماعية تظهر دائماً إذا وجدت المناخ الملائم فى جميع مجتمعات البشر وهى أمور محرمة بالنصوص القاطعة فى الإسلام والشاهد على ما قلنا ما يجرى فى ارقى دول العالم كأمريكا وبريطانيا وغيرها مما لا تخلوا نشرة من نشرات الأخبار منه فى كل يوم , والإسلام ليس مسئولاً عنه وذلك مثل ما وقع فى مأساة غيانا وكارثة أوكلاهوما بأمريكا على المثال وكذلك الإرهاب والعنف الجارى فلى أيرلندة الشمالية بين الكاثوليك والبوتستنت من جهة وبين الكاثوليك والحكومة البريطانية من جهة أخرى منذ عقود من الزمان.

الثالث عشر – يرى الإسلام أن المسلم أينما كان وكيفما كان يجب عليه أن يتمسك بدينه ويدافع عنه ليحافظ على أخلاقه التى تحكم شخصيته كمسلم وذلك بالطرق المشروعة وهو الأمر الذى حدث وتأكد تماماً فى الدول الإسلامية الأولى فالمجتمعات الإسلامية فى أفريقيا قبل الاحتلال الأوربى الاستعماري ظلت ترعى حقوق الأقليات وتحترم ممتلكات تلك الأقليات فى غير أحوال الحرب وظروفها الأمر الذى لم تراعه الدول المستقلة ذات الأقليات الإسلامية فى أفريقيا وغيرها إذ أغلب الأحيان يتعرض المسمون إلى التمييز ويعاملون فى بلدانهم كأجانب أو كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة فى أكثر الأحيان بل قد مورس ضدهم فى بعض البلدان ما يسمى بالعالم المتحضر فى أوروبا جرائم التطهير العرقى والإبادة الجماعية وبدافع التطرف والتعصب الدينى وليس السياسى فقط كما يحدث فى البوسنة والهرسك لعدة سنوات قبل ان يتحرك العالم لنجدتهم ولوضع حد لتصرفات الصرب النازيين المنافية للأخلاق والإنسانية .

الإسلام وأزمة السلام العالمى

عن الإسلام دين سماوى قام على عقيدة التوحيد الواضحة وعلى رعاية حقوق الله وحقوق الناس وتحريم الظلم والعدوان بكل الأشكال والألوان وأزمة السلام فى عالمنا المعاصر سببها الأساسى هو الظلم والاستعاضة بالقوة عن التفاهم بالحوار والعقل مما أفقد الناس الثقة فى جميع المنظمات الدولية وفى القانون الدولى الذى فقد فعاليته فى ظل الهيمنة الأمريكية وما لم يتوقف هذا الظلم وينصف العالم المظلومين فإن الإرهاب والعنف لن يتوقف مهما فعلت أمريكا وحلفاؤها فى حربهم ضد الإرهاب.

ومن أجل ذلك كان من أبرز أسس دعوة الإسلام إلى السلام العمل على بسط مظلة العدل على جميع الناس حتى تختفى مظاهر الظلم والعدوان بين جميع الشعوب فيسود السلام وينتشر ومهد الإسلام لذلك الأساس بوضع قاعدة التوازن بين سكان الوطن الإسلامى مسلمين وأهل ذمة ومعاهدين فالجميع سواسية وكلهم ينسبون إلى آدم فهم أخوه بهذا الإعتبار كما قال تعالى : (يا أيها الناس أتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلفق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً وأتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام  ) النساء :1وقال تعالى : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير  ) الحجرات : 13

ولم يجعل الإسلام لتحقيق هذه الغاية قيوداً ولا حدوداً ما لم تعد عليه بالنقض الأمر الذى جعله دين سلام يحق : فقد أباح الإسلام لأتباعه إقامة كافة العلاقات بينهم وبين أهل الذمة من أهل الكتاب ابتداءا من المعاملات التجارية إلي علاقات المصاهرة وتبادل المآكل والمشارب فيما أحل الله للفريقين وتقدم سياق بعض الآيات التي تؤكد هذا المعني وقال تعالي أيضاً : (  اليوم أحل لكم الطيبت وطعام الذين أوتو الكتب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنت والمحصنت من الذين أوتوا الكتب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسفحين ولا متخذي أخذان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الأخرة من الخاسرين المائدة : 5 .ومن أسس التسامح التي انفرد بها هذا الدين السماح لأتباعه بلإصهار إلي أهل الكتاب وذلك لوجود علاقة الإيمان بين الزوجين علي الأقل من طرفه هو والزواج وما يترتب عليه من آثار لا يبيحه الإسلام علي هذا الوجه إلا لأنه يعتبر المسألة أصولية وليست فرعية سياسية في باب المعاملة فمن الوضوح بمكان أن زواج المسلم من الكتابية يجعل بعض عائلته يهودا أو نصارى فأصهاره وأجداد أولاده من جهة أمهم وأخوالهم وخالاتهم وبعض أقاربهم كأبناء أخوالهم وخالاتهم من ذوي أرحامهم لهم حقوق صلة الرحم وحقوق ذوي القربي وهذا التسامح لا يكاد يوجد مقننا ومشرعاً بهذا الوجه في غير دين الإسلام .

ولقد أباح فقهاء الإسلام للمؤهلين من أهل الذمة أن يشغلوا مناصب وزارية تنفيذية في الدولة الإسلامية كما وقع ذلك في عهد الدولتين الأموية والعباسية وغيرهما .

ومن تلك التمهيدات كفالة الإسلام لحرية الإعتقاد لجميع المواطنين وأنه حتي وهو مركز القوة لا يفرض علي الناس إعتقادا لم يختاروه بمحض إرادتهم فقال تعالي في كتابه العزيز فيما لم ينسخ   : ( لا إكراه في الدين  ) البقرة : 255 .لم يمنع الإسلام إستعمال الرحمة والأدب الائق مع المخالفين أهل كتاب كانوا أم مشركين .ففي حكم الوالدين غير المسلمين يقول القرآن :  ( وإن جهداك علي أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) لقمان : 15 . وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند أحمد والشيخين قالت : ” قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام  فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفاصلها قال:  نعم صلي أمك .

وفي حكم الأسري وهم حينئذ قطعاً من غير المسلمين يقول الله تعالي 🙁 ويطعمون الطعام علي حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) الإنسان : 8 . والمسكين واليتيم في الآية تتناول المسلم وغيره بل عاب الإسلام ربط الإنفاق المطلق بالدين أو الإيمان فقال تعالي 🙁  ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف اليكم وأنتم لا تظلمون)البقرة : 272 .وقد روي الإمام محمد بن الحسن الشيباني في شرح السير الكبير : أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث إلي أهل مكة ما لا لما قحطوا ليوزع علي فقرائهم إنتهي ( ج : 1 ص 144 ) .

من أعظم الممهدات لبناء الثقة بين المسلمين وأصحاب الديانات السماوية يهوداً أو نصاري ما تميزت به معاملة الرسول e لهم إذ عرف له من عاصروه احترامه لدياناتهم وأماكن عباداتهم وعدم منعهم من ممارسة شعائر دينهم حتي في مسجده الشريف ومن ذلك زيارته لهم وعيادته مرضاهم وقبوله هداياهم ومهاداته إياهم وفى السيرة ذكر ابن إسحاق أن وفد نصارى – نجران لما قدموا على رسول الله  صلى الله عليه وسلم بالمدينة دخلوا عليه مسجده بعد العصر فكانت صلاتهم فقاموا يصلون فى مسجده فأراد الناس منعهم فقال رسول الله e دعوهم فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم. وفى هذا جواز استقبال أهل الكتاب فى المساجد وجواز دخولهم فيها إذا دعت لذلك ضرورة وجواز السماح لهم بإقامة صلاتهم بحضرة المسلمين إذا لم يتخذ ذلك عادة دائمة.

وروى البخارى عن أنس بن مالك أن النبي e عاد يهودياً وعرض عليه الإسلام فأسلم فخرج وهو يقول : الحمد لله الذى أنقذه بى من النار.

وروى أبو عبيده القاسم بن سلام فى كتاب الموال عن سعيد بن المسيب أن رسول الله  صلى الله عليه الصلاة والسلام تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهى تجرى عليهم إنتهى ص : 613

وسار أصحاب رسول الله  e على مثل ما عمل به  e فى هذا الكتاب فقد رأى عمر يهودياً عجوزاً يسأل فتبين أنه غير عائل فأمر بصرف معاش دائم له ولعياله من بيت مال المسلمين ثم يقول الله تعالى:( إنما الصدقات للقفراء والمساكين ) التوبة  :60 . وهذا من مساكين أهل الكتاب أنتهى الخراج لأبى يوسف ( ص : 26 .

وعبد الله بن عمرو بن العاص يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية ويكرر الوصية مرة بعد مرة ، حتي دهش الغلام وسأله عن سر هذه العناية بجاره اليهودي ؟ قال ابن عمرو : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثة ” رواه أحمد والشيخان وداود والترمزي انتهي .وذكر ابن حزم في المحلي ج 5 ص 117 أن أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية فشيعها أصحاب رسول الله e .

والأصل في هذة المعامله هو ما غرسه الإسلام في نفوس المسلمين من الإعتقاد بتكريم الله للإنسان من حيث هو أنسان وهذا طبقة المسلمون الأوائل علي جميع بني البشر بغض النظر عن اختلاف الدين والعرق واللون وكل الفوارق الأخري .

تسامح الإسلام وتعنت الآخرين

بالرغم من الأدلة الكافية التي تقدم ذكرها في بيان تسامح الإسلام ، إلا أن مما يؤسف له أنه لا يمضي وقت طويل حتي تسمع عن أزمة أو صدام حدث أو يحدث بين المسلمين و المسيحيين في المناطق التي يسكنون فيها يحدث ذلك في كثير من بلدان العالم التي يشترك فيها المسلمون مع غيرهم ، فهذه هي فلسطين المغتصبة تتعرض لأفظع عمليات انتهاك الحرمات والمقدسات وقتل الأبرياء من العجزة والأطفال والنساء ولمدة تجاوزت الأربعة عقود ، ثم يصر دهاقنة السياسة الدولية علي تسمية الأزمة بقضية الشرق الأوسط لتجد إسرائيل موقعاً لها ف المنطقة فتفضل بين أجزاء العالم الإسلامي الأمر الذي تم التخطيط له بدهاء منذ عشرات العقود .

وهذه هي قضية كشمير لا زالت الاشتباكات تحدث بين المسلمين وغيرهم من وقت لآخر وهكذا الأمر في بعض المناطق في إندونيسيا ، أما في أفريقيا فألامر أصبح بدرجة من الوضوح مما يستدعي وقفة  جادة لكشف الحقائق للبشرية جمعاء فعلي سبيل المثال حدثت عدة اشتباكات بين النيجيريين خلال العام المنصرم تناقلته وسائل الإعلام الغربية بأنها اشتباكات بين المسيحيين والمسلمين ، ومما يؤسف له حقاً هو تشويه الحقائق وصياغة الأخيار بالطريقة التي يهواها الغرب وبالطريقة التي تخدم مصالحه في العالم ، في الوقت الذي تجد فيه أن الواقع مختلف تماماً لقد كانت نيجيريا قبل عقدين من الزمان تعيش في أمن وسلام خاصة في مجال التعايش بين المسلمين والمسيحيين لدرجة أنه في وقت من الأوقات ، إذا رفع الأذات لوقت الصلاة تري المسيحي يقف إذا كان ماشياً إجلالاً وتعظيماً للإسلام ، وتجد منهم حتي الآن من يدعون المسلمين لذبح بهائمهم في مناسباتهم الدينية حتي يضمنوا مشاركة جيرانهم من المسلمين لهم في الأفراح ، فكل هذا يدل علي مدي سماحة الإسلام والتعايش السلمي بين سكان هذه البلاد بالرغم من تعدد دياناتهم ، واختلاف أعراقهم ، ظل الحال هكذا إلي أن أطل عهد جديد ، ظهرت فيه الدسائس السياسية والطموحات التي لا تعرف قيوداً من الأخلاق والدين ، كما أن الظروف الاقتصادية المتردية ، أسفرت عن وضع إجتماعي سيء للغاية حيث تفشت البطالة بآثارها المدمرة ، لقد استغل هذا الوضع بعض الساسة وخاصة أولائك الذين ستفجرون غيظاً ويمتلأون حقداً علي الإسلام والمسلمين فطفقوا يلبسون كل أزمة حدثت بين النيجيريين لبوس الدين لتحقيق أهدافهم ، فما من فتنه نائمة إلا وأيقظوها ، ولا من أزمة نشبت إلا واذكوا أقوارها حتي تكونت قناعة لدي بعض الشعب والناس وكان الإسلام دين اعتداء وليس فيه تسامح بل دين إرهاب وهي دعاية مغرضة ليست في صالح المسيحية ولا أية ديانة أخري ، إنما تحقق أهدافاً معادية للبشر جمعاء .

ومن هنا ، نرجوا أن يخرج علماء الإسلام من اجتماعهم في هذه القاعة المباركة إلا بوضع خطط شاملة توضح حقائق الإسلام وتبرئته من تلك المفاهيم الخاطئة التي  علقت به في أذهان الذين يجهلونه بناء علي ما يرونه من تصرفات بعيدة كل البعد عنه يقوم بها أناس لم يحسنوا عرض الإسلام وتقديمه للناس علي وجهه الصحيح ولهذه الأسباب يجب أن يسهر جميع العلماء كل في موقعه لتوضيح هذه الحقائق وأن يجاهد في سبيل إيصالها إلي العالم الذي كاد بأكمله أن يقع في ظلمات المفاهيم المضللة حول الإسلام وحقائقه مع وضوحها وانتشارها علي مدي أربعه عشر قرناً الماضية وهذا أقل ما يجب أن يقوم به العلماء تجاه هذا الدين العظيم في ظل الأزمات والمتغيرات الراهنة وشكراً لمصر حكومة وشعباً وشكراً منا ومن جميع المسلمين حول العالم للأزهر الشريف ورجاله المخلصين لهذا الدين العظيم .

توصيــات:

وأخيراً نوجه عناية السادة المجتمعين في هذا المؤتمر العظيم إلي أمور مهمة :

أولها : يجب أن تتغير لهجتنا ونحن نعالج هذه الأزمة من أسلوب الدفاع عن سماحة الإسلام وعدالته ورعايته لعنصر السلام والاستقرار العالميين .

ثانيها : الابتعاد عن الاعتذار للآخرين لأننا لم نرتكب إثماً أو ذنباً في تمسكنا بعقيدة الإسلام والأصولية ليست إرهاباً ولا تطرفاً ولا تعصباً ولا اعتداء علي أحد .

ثالثها : استخدام جميع وسائل الإعلام الحديثة من أجل إيصال الصورة الصحيحة للإسلام إلي تلك الشعوب التي تتفجر كرهاً وعداء للإسلام حتي نضعها أمام الأمر الواقع وحتي نحكمها إلي ضمائرها وحتي نضطر العقلاء في مجتمعاتهم علي إنصافنا حتي لا ندور علي أنفسنا أو ندور في حلقة مفرغة ولكيلا يكون شرحنا لحقائق الإسلام موجهاً لأنفسنا كما هو المعهود في خطابنا الديني أخيراً .

رابعها : الاجتماع علي تعريف حقيقي للإرهاب والتمييز بينه وبين صور الدفاع المشروع عن النفس والمال والعرض والوطن يستخدمه جميع العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي في خطابهم الديني وحوارهم في المحافل الدولية والإقليمية وحتي يتضح لجميع الناس أن هذا الخلط للأوراق الذي نراه في الحملة الأمريكية الأخيرة ليس إلا صور الظلم والغطرسة والاعتداء استناداً إلي  القوة ولا علاقة لشيء منه بالعدل .

خامسها : الضغط بكل الوسائل دائماً  وعلي كل الأصعدة حتي نكسر جدار الجمود التجاهل المتعمد لقضايانا من قبل دول العالم وبذلك  نقطع الطريق أمام أولئك الذين ينادون بأعلي أصواتهم إلي صدام الحضارات ويدقون طبول الحرب ويهدفون إلي خلق اليأس في نفوسنا وأجيالنا الآتية بقصد إبقائنا في قمقم الخوف والرعب وهو أشد حتي من الإرهاب  نفسه إذا دام .

وأما سادسها : فخطوتان يجب أن يقوم بهما علماء الأمة العربية والدول العربية أما الخطوة الأولى التى يجب أن يقوم بها العلماء فتتمثل فى التحرك الدائم من أجل وضع جميع علماء الأمة الإسلامية والمثقفين وفعاليات العمل الإسلامى الصادق فى الصورة بحيث تشمل هذه اللقاءات شرح حقيقة هذه الأزمة وأبعادها وتداعياتها وما يمكن أن يترتب عليها من ضرر بالغ يعم أمن الأمة الإسلامية واستقرارها ولا فرق فى ذلك بين العرب وغيرهم ويجب أن نعلم أن القذاءات فى المؤتمرات والملتقيات لا يكفى لذلك بل تحتاج الأمم والشعوب الإسلامية من غير العرب إلى إحساس بالمشاركة الفعلية فى الحل لا ينبغى أن يقتص دورها على مجرد التعاطف أو التطوع فى المشاركة

أما الخطوة التى يجب على القادة السياسيين العرب القيام بها فتتمثل فى تقوية روابطهم وصلاتهم بالمسلمين الموجودين فى مراكز إتخاذ القرار فى أفريقيا وآسيا وباقى دول العالم إسلامياً ويضعوهم فى الصورة ليس من وجهة النظر السياسية فحسب وإنما إسلامياً أيضاً حتى نكسب تضامنهم مع قضايانا المصرية ونحن نعتقد أن أفريقيا فيها الخير الكثير ويمكن أن تبدأ بها بوصفها بعداً طبيعياً للعالم العربى .

ففى الوقت الذى نرى فيه أمريكا بكل مؤسساتها ومؤيديها من الدول الحليفة معها لا تهدأ من شرح وجهات نظرها حول قضية الحرب ضد الإرهاب ولا يمر أسبوع من الزمن إلا ونرى تحركاً قوياً من أجل كسب التأييد مع كل ما نعرفه ونراه من قدرة أمريكا على التفرد باتخاذ القرار ودون الرجوع إلى حتى أقرب الحلفاء إليها ولكن ذلك لم يمنعها من التحرك الدائم من أجل كسب التأييد العالمى لأنها تعلم بأن النفق الذى سارت فيه سينتهى بلا شك إلى ظلام دامس وإلى غير نفاذ ولا مخرج لها منه.

ونحن نرى فى جانب الدول العربية الإسلامية المعنية بهذا الأمر صمتاً مخيفاً وعجزاً مرعباً وتقصيراً واضحاً على ما يبدوا , وهذا أمر يؤسف له , فقد جعل هذا الصمت والعجز والتقصير حجتنا القوية حججاً ضعيفة التأثير وعاجزة عن تحقيق الهدف.

إبراهيم صالح الحسينى

صفر الخير 1423 هـ : أبوجا – نيجيريا

 

اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق

ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم

وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى