Site icon

القدوة والقيادة جانبان من الجوانب المتميزة والمميزة  لشخصية شيخنا أبي العباس مولانا احمد  التجاني

عروض وأبحات

قدمت بمناسبة تدشين الزاوية التجانية الكبرى لسيدي محمد الكبير التجاني

بحي بريمة

27 ماي 2006 / 29 ربيع الثاني 1427

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

القدوة والقيادة جانبان من الجوانب المتميزة والمميزة

 لشخصية شيخنا أبي العباس مولانا احمد  التجاني

 رضي الله عنه

 

        إن شيخنا  العالم القدوة الإمام مولانا أبا العباس احمد التجاني رضي الله عنه من الشخصيات الإسلامية البارزة التي طبعت زمانها والأزمنة التي بعده وأثرت تأثيرا ملحوظا في مجتمعاتها. وعلى عكس اهميتها فإنها لم توف حقها من العناية والدراسة حتى ليعجب الدارس والباحث من قلة ما كتب عليها ومن الخلط والغموض الذين أحاطها بهما بعض المؤرخين رغم قربها التاريخي [ القرن الثامن عشر ] والجغرافي [ شخصية مغاربية ] ورغم الوضوح والصحة التي تميزت بهما سيرته رضي الله عنه  وبقدر ما بخس حقه لدى أعدائه وحساده بقدر ما عظمت مرتبته لدى أتباعه وأحبابه وتلامذته وأهل طريقته. فقل ما تجد اهل طريقة صوفية يمجدون ويكرمون شيخهم مثل ما يمجد ويكرم التجانيون شيخهم وكل ما له صلة بشيخهم.

إن شخصية مولانا احمد التجاني رضي الله عنه شخصية مثيرة وجذابة خاصة لمسلمي ولعرب اليوم. لأنها شخصية تفوق وتميز ونجاح وتحدي  وليست شخصية انهزام وانعزال وتقهقر. يحدث عن نفسه رضي الله عنه : ” من طبعي اني إذا ابتدأت شيئا  لا أرجع عنه وما شرعت في أمر قط إلا أتممته ” ج 1 ص 32. يقول عنه صاحبه سيدي علي حرازم رضي الله عنه  ” فله رضي الله عنه همة سابقة وعزمة لاحقة تأبى نفسه أن يفوته مدرك من المدارك او يضل مسلكا من المسالك  ” ج 1 ص 32.

ولي مع مولانا الشيخ رضي الله عنه عند القراءة في سيرته أربع حالات :

ومجموع هذه القراءات  تنتج في نفسي قناعات كبيرة وحبا وتعلقا شديدا وتعظيما وإكبارا لهذا الشيخ الجليل المبارك الذي أفتخر بالانتساب إليه.

ولي أيضا مع مولانا الشيخ رضي الله عنه عند القراءة في سيرته أني أستحضر جانبا او خلقا او معنى واتتبعه لأخرج باستنتاجات قيمة حول الجانب الذي أبحث فيه ولا آتيه في محاولة تحليل كل الجوانب مرة واحدة. هذا العرض سأحاول ـ بتوفيق الله ـ تسليط الضوء على جانبين من الجوانب المتميزة في شخصية شيخنا مولانا أحمد التجاني رضي الله عنه:  جانب القدوة والقيادة.

 

واختياري لهذين الجانبين ليس جزافا بل تعمدت هذا الاختيار ليقيني أن الخمول الذي وصلت إليه الزاوية التجانية ـ إذا لم نرد استعمال وصف التدهور او الأزمة ـ يرجع بالأساس إلى ضعف جانبي القدوة والقيادة عند المسؤولين على الزاوية التجانية أو إلى سوء استعمال  هذين الجانبين في مصلحة الزاوية التجانية.

وأتناول في هذا العرض محاور أربعة تجيب على الأسئلة التالية :

رضي الله عنه ؟

 

القدوة أو الإسوة أو الإمامة صفة في المتبوع تحمل الناس على تقليده  ومحاكاته من غير سلطة ولا إكراه بل بدافع الحب والاقتناع .

أما القيادة او الإمارة او الرئاسة  فهي ممارسة سلطة داخل مؤسسة  أو جماعة. والسلطة قد تكون عامة أو محدودة. وقد تكون بالأصالة أو بالوكالة. القدوة عقد فردي معنوي أخلاقي بين التابع والمتبوع بينما القيادة هي عقد اجتماعي بين القائد او الحاكم أو الرئيس وبين أفراد المؤسسة أو الجماعة. القدوة والقيادة لا تمارسان إلا داخل جماعة [ أقلها اثنين ]. فهما مفهومان لممارسة بالضرورة اجتماعية.

قد تمارس القدوة دون قيادة وهذا شأن المصلحين الاجتماعين كالأنبياء  وكالعلماء. وقد تمارس القيادة دون قدوة وهذا شان القادة السياسيين والحكام وقد تمارس القدوة والقيادة معا وهذا شان الرسل والخلفاء الراشدين وفي نطاق ضيق فالأب قد يكون قدوة والام قد تكون قدوة ورئيس شركة يمارس قيادة.

والقيادة والرئاسة شيء واحد من حيث الممارسة وحيث أن الرئاسة فيها شيء من العقد الذي تم بين نبي الله موسى عليه السلام والولي الصالح الخضر كان عقد قدوة:  ” هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ” .

العقد الذي تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الانصار في العقبة كان عقد قيادة.

رعونة النفس وحب الاستيلاء على الغير والانتفاع بهذا التحكم انتفاعا ماديا ومعنويا حذر منها الدين ومنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس والصحابي الجليل أباذر الغفاري.

القيادة إذا صاحبتها نية التميز من أجل منفعة الناس ومراعاة مصالحهم فهي محمودة بل ومرغب فيها. قبلها الخلفاء الراشدون ومارسها شيوخ الطرق الصوفية. وهي قائمة على البيعة أي عقد مصلحي بين القائد والأتباع.

المتتبع لسيرة شيخنا رضي الله عنه يجد جانبي القدوة والقيادة يهيمنان على شخصيته رضي الله عنه وكأن حركاته وتصرفاته تصب جميعها في هذين الوصفين.

حاولت تقسيم حياته رضي الله عنه ـ باعتبار هذين الجانبين ـ إلى ست مراحل تحددها خمس تواريخ هامة موافقه لعمره رضي الله عنه 21 سنة ثم 31 سنة ثم 36 سنة ثم 46 سنة ثم 63 سنة.

فترة الطفولة ثم النضج المبكر والزواج في 15 سنة وموت الأبوين في 16 سنة واستقلال الشخصية بعدها.

في هذه الفترة تخبرنا سيرته عن حلم طفل وعن تطلع يراوده حتى ينعكس على خياله ومنامه حدث عن نفسه رضي الله عنه كما في الجواهر 1 ص 45: ” رأيت وأنا صغير قبل البلوغ كأنه انتصب لي كرسي المملكة وانا جالس عليه ولي عساكر كثيرة وانا أصرفها في قضاء الحوائج كأني ملك ”  طفل كان يحلم بشيئين بالقيادة وبقضاء حوائج الناس.

وأقف عند موت والديه ( رضي الله  عنه وعنهما ) لأقول أن هذا الحادث الفاجع ليس الذي غير مسار الفتى أحمد التجاني بل فقط عجل بنضجه وبتحمله المسؤولية وأطلق قيوده لذا نجده  بعده يتحرر من زواجه بعدما خير زوجته فلم يجد فيها الرفيقة التي ستساعده على خوض تجربته العلمية والروحية تجربة البحث عن الأعلى بثمن غال وهو عدم الاستقرار والحرمان والمجاهدة والزهد وقطع العلاقات مع المألوف.

تميزت شخصية مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه في هذه الفترة بـ :

2-الفترة الثانية دامت 10 سنوات من سن 21 سنة إلى بلوغه 31 سنة:

بدأت بارتحاله [ لا مجرد رحلة تعود به إلى مقره الأول ] من بلده عين ماضي إلى مدينة العلم والولاية فاس ونواحيها ثم إلى الصحراء وأقام بزاوية الشيخ الأبيض خمس سنوات ثم عاد إلى عين ماضي مدة يسيرة أو عابرا ثم مرة ثانية إلى زاوية الشيخ الأبيض لينتقل منها إلى تلمسان ليمكث فيها خمس سنوات.

في هذه الفترة نجد :

فترة لم يبرزها حدث معين تخبرنا به سيرته رضي الله عنه. ولكن يجد الشيخ رضي الله عنه نفسه فجأة تحت دافع قوي لا يملك إلا الخضوع له ويقرر انعزاله الكلي عن الناس وإرادته إدراج نفسه في أول باب من أبواب السلوك الصوفي وهو باب التوبة وبعدها طالب نفسه بأنواع عالية وشديدة من الالتزام والجد والمجاهدة والصيام وقيام الليل بكيفية خارجة عن المألوف. وكل هذا خارج طريقة صوفية معينة  وخارج نظر شيخ معين. وقد ظهرت للشيخ رضي الله عنه في هذه الفترة كرامات معنوية عالية تمثلث  في بروز علوم ومعارف شدت  إليه الناس وخاصة طلاب المعرفة الصوفية فكان يمتنع  امتناعا صارما عن دعوى المشيخة.

تميزت هذه الفترة التي قاضاها بتلمسان :

4- الفترة الرابعة : اشتغرقت 10 سنوات من بلوغه رضي الله عنه 36  سنة إلى 46 سنة :

بدأت  برحلة حج مر فيها ببلد ازواوى قرب الجزائر، ثم تونس ثم مصر القاهرة ثم مكة المكرمة ثم المدينة المنورة ثم عاد إلى مصر فتونس وفي طريقه إلى تلمسان التقى بصاحبه العلامة السيد محمد بن المشري مؤلف الجامع، وعمر الشيخ رضي الله عنه 38 سنة. وأقام رضي الله عنه في تلمسان 3 سنوات ثم رحل إلى فاس مرورا بوجدة حيث التقى بصاحبه وخليفته السيد علي حرازم رضي الله عنه وعمر الشيخ رضي الله عنه 41 سنة، ثم عاد إلى تلمسان فبقي  بها 5 سنوات ثم رحل إلى قرية أي سمغون، ثم توات ثم عاد إلى أبي سمغون  حيث وقع له الفتح الأكبر بالاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم  وعمره 46 سنة.

تميزت هذه الفترة :

لم تكن في هذه الفترة شخصية القيادة مهيمنة على الشيخ رضي الله عنه وإن كانت حاضرة، فقد أعطى الإذن في الطرق والأذكار والأسرار لعدد من الناس لكن من حيث كونه قدوة ولم يرد أن يكون قائدا في إحدى هذه الطرق بل كل من اشترط عليه ذلك لم يجبه إلى شرطه.

5- الفترة الخامسة  : من عمره المبارك 46 سنة إلى 63 سنة.  17 سنة من الاستقرار في قرية ابي سمغون – موطن فتحه- مارس فيها الشيخ رضي الله عنه المشيخة الصوفية في إطار طريقة مستقلة وهي الطريقة التجانية، مارس وظائف القدوة والقيادة يقول صاحب الجواهر رضي الله عنه ” فمن ذلك الوقت والوفود ترد عليه من جميع النواحي والأقطار للأخذ عنه وللزيارة وأخذ الأسرار، ومن جملة  فيوضاته ما تلقيناه من إملائه علينا من حفظه ولفظه ” ج 1 ص 52. فحتى سنة 41 من عمره المبارك يحدثنا صاحبه سيدي علي حرازم: ” ورجع إلى تلممسان وأخبرني بأنه ينتقل من تلمسان إلى مكان آخر لأن حاله لم يستقم  بها وضاقت نفسه”  ج 1 ص50.

ويعلم انه رضي الله عنه في سن 58 سنة من عمره المبارك تقدم لإمامة الصلاة بنفسه بعدما وكلها لصاحبه العلامة ابن المشري عشرين سنة.

إذا كانت جميع رحلات الشيخ رضي الله عنه وتنقلاته السابقة تمت تحت دافع البحث عن الذات والمنزلة والاستقرار النفسي والروحي فانتقال الشيخ رضي الله عنه من قرية أبي سمغون إلى فاس لم يكن تحت هذا الدافع بل بدافع آخر.

يحدث صاحبه سيدي علي حرازم: ” فعند هذا تنزل للحلق والإفادة وإظهار الطريقة والاستفادة ” ج 1 ص 51.

6- الفترة السادسة والأخيرة:  من عمره المبارك 63  سنة على وفاته رضي الله عنه 80 سنة : 17  سنة من الاستقرار بفاس وفي سنة دخوله لفاس أمر رضي الله عنه بجميع كتاب  جواهر المعاني أي بكتابة الإطار المرجعي لطريقته وأفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا كتابي وأنا ألفته لا بالمفهوم الحرفي وإنما مباركته صلى الله عليه وسلم وتزكيته لهذا الكتاب كمرجعية صوفية أولا ثم تزكيته كمرجعية  للطريقة التجانية . ونعلم أن مادة الجواهر والجامع من إملاء ومن لفظ الشيخ رضي الله عنه فهو المنظر لطريقته من ألفها إلى يائها، لم يعنه أحد  فيها فكل قواعدها من إنشائه رضي الله عنه بالإذن النبوي وشاء الله سبحانه الا يكون لأحد منة على الطريقة التجانية فمات المؤلفان صاحب الجواهر وصاحب الجامع قبل الشيخ رضي الله عنه بسنين 13 سنة و 6 سنوات قبل وفاة الشيخ رضي الله عنه.

تميزت هذه الفترة :

في ختام هذه الجولة في حياة مولانا الشيخ التيجاني رضي الله عنه أقدم مدة إقامته رضي الله عنه بالمواطن التي رحل إليها بهذا الترتيب:

الثانية دامت 5 سنوات  : 31-36 سنة

الثالثة  دامت 3 سنوات: 38-41 سنة

الرابعة دامت 5 سنوات  : 41-46 سنة

* 17 سنة بقرية ابي سمغون والشلالة[1] بالصحراء   46-63 سنة

* سنتان – رحلة الحج – زواوي- تونس- مصر – مكة المكرمة– المدنية المنورة ثم الرجوع 36-38 سنة

* 17 سنة بفاس  :  الزيارة  الأولى لفاس والنواحي في سن 21

( زيارتان ثم استقرار نهائي):الثانية  لفاس مرورا بوجدة في سنة 41

الثالثة والاستقرار بها في سنة 63 إلى الوفاة 80 سنة.

هل نجح مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه ؟

إن مقياس النجاح والفشل هو الوصول أوعدم الوصول إلى الهدف فماذا كان هدف الشيخ في الحياة رضي الله عنه وهل وصل إلى هدفه .

هدف الشيخ رضي الله عنه كان واضحا منذ البداية، بداية حياته المباركة متمثلا في شيئين في منزلة وفي وظيفة.

ما الذي كان وراء هذا النجاح ؟

أرى أن الشيء الذي كان وراء نجاح مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه هو توفيق الله عز وجل وعنايته  الكبيرة به رضي الله عنه هذا التوفيق وهذه العناية تجليا في مؤهلات وملامح وظروف . لكن الممتبع لحياة االشيخ رضي الله عنه لا يكاد يجد تعويل الشيخ رضي الله عنه على ظرف معين من الظروف بل يرجع كل اختياراته لمسؤوليته الشخصية  في توكل تام على توجيه الله  له.

– ما هي ملامح شخصيته رضي الله عنه ؟

كما أن وضوح فكره ومعتقده ومنهجه يجد تفسيره في تعليمه المتفوق أولا، ثم في ممارسته لعملية التدريس والإفتاء التي منحته قوة وسرعة ووضوح الإجابة والقدرة على تصور المسائل وعلى التحليل.

الشيخ التجاني رضي الله عنه رجل اجتماعي ورجل للمجتمع يرحل عن عين ماضي مقر ولادته وأسرته لكن نراه أشد عطفا عليهم وصلة  بهم. ورجل يخالط كل الشرائح الاجتماعية ولا يتحرج من شريحة دون أخرى. رجل يخالط العلماء  والوجهاء، ويتحدى بالعلم كما تعلم بحضرة السلطان المولى سليمان رضي الله عنه ويكرم العلماء ويقربهم منه، كما كان يفعل مع أسرة صاحبه سيدي ابن المشري رضي الله عنه ومع سيدي الغالي بوطالب- وهذه أمثلة فقط…

هذا الخلق الاجتماعي تقوى بتنقلاته وبملاقاته وبعيشه في مجتمعات مختلفة صحراوية وبدوية ومدنية، لا يجد حرجا في تغيير موطنه وهذا الخلف صاحبه كل حياته حتى في نهايتها كان يهم بالانتقال إلى الشام. هذا الخلق الاجتماعي اكسبه قوة على معرفة الناس وعاداتهم واخلاقهم واختلافهم

نـهــايـة:

هذه جولة  ممتعة ومثيرة  ملخصة وموجزة  في حياة هذا الشيخ المبارك شيخنا مولانا أحمد التجاني رضي الله عنه رجل مثال للتفوق والتميز. كطفل وطالب علم وسالك صوفي وعالم ومدرس، وولي وشيخ طريقة وصاحب وزوج وأب وقريب وجار ، مفخرة للمسلمين لا فقط لأهل الطريقة التجانية. ومثال يتعين علينا الاقتداء به والانكباب على دراسة  حياته الغنية بالعبر والدروس .

وأعيد دعوتي لإخواني الفقراء لعقد مجالس لقراءة ودراسة ومناقشة كتاب جواهر المعاني، لا فقط التبرك به، وأحذر من نوع القراءة أو الشرح المتمثل في أسقاط  المعاني الواردة حول مقام المشيخة ، أسقاطها على المقدم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

بقلم الأستاذ الباحث:

سيدي محمد العراقي الحسيني

 

[1]  – الاستاذ احمد الأزمي يتحدث عن إقامة الشيخ (رضع) بقصر الشلالة ثلاث سنين قبل أبي سمغون ص 69

الطريقة التجانية خلال القرن 19

Exit mobile version